أولاً:
قول الله تعالى:
( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) غافر/60.
سياق الآية قد يشير إلى أن الدعاء هنا المراد به العبادة والتوحيد، كما في حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ . وَقَرَأَ : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) سورة غافر : 60 ) رواه أبو داود (1479) والترمذي (2969) وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
إلا أنه يتناول بلفظه دعاء المسألة، وقد فسرت بالمعنيين كليهما.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" قوله: ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )، فيه قولان: أحدهما: وحدوني واعبدوني أثبكم، قاله ابن عباس. والثاني: سلوني أعطكم، قاله السدي " انتهى. "زاد المسير" (7/234).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والعابد داع، كما أن السائل داع، وبهما فُسِّر قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، قيل: أطيعوني أثبْكم، وقيل: سلوني أعْطِكم، وفُسِّر بهما قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ .
والصواب: أن الدعاء يعم النوعين، وهو لفظ متواطئ لا اشتراك فيه " انتهى. "جلاء الأفهام" (ص160).
واستجابة الله تعالى لسؤال عباده ونوالهم ما يرغبون فيه معلوم لكل مسلم، ومن ذلك ما أشرت إليه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: ( فِيهِ سَاعَةٌ، لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ) وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. رواه البخاري (935) ومسلم (852).
والاستجابة والإجابة، وإن كان معناهما لغة يشير إلى أن السائل ينال عين ما طلبه؛ فإنها واردة كذلك في دعاء العبادة، والعابد إنما يسأل ربه رضوانه، وثوابه.
قال ابن القيم، رحمه الله: "الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة؛ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين، والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين.
والاستجابة أيضًا نوعان: استجابة دعاء الطالب بإعطائه سُؤْلَه، واستجابة دعاء المُثني بالثواب. وبكلِّ واحد من النوعين فُسِّر قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، والصحيح أنه يعُمُّ النوعين" انتهى، من "زاد المعاد" ط عطاءات العلم (1/ 269).
ثانيا:
قد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن إجابة الله تعالى لدعاء عباده ومسألتهم، لا يلزم أن تكون بنوال جنس ما طلبه العبد، بل قد يجيبه الله تعالى بأن ينيله غير ذلك، مما هو أليق بحاله.
كما في حديث عُبَادَة بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ؛ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا؛ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ).
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ! قَالَ: (اللَّهُ أَكْثَرُ) رواه الترمذي (3573) وقال: "وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ".
والله عز وجل، غني حميد، وهو على كل شيء قدير؛ تعالى لا يتعاظمه شيء أراده، سبحانه.
كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: ( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللهُمَّ ! اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ ) رواه البخاري (6339) ومسلم (2679) واللفظ له.
غير أن إجابة الدعوات، وتقسيم الأرزاق، ليس مرده إلى كمال قدرته، سبحانه؛ بل مرده أيضا لمشيئته، وحكمته، وخبرته.
قال الله تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا 18 وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا 19 كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا 20 ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا 21 لَّا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتَقۡعُدَ مَذۡمُومٗا مَّخۡذُولٗا 22 [الإسراء: 18-22].
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ) فيكون هذا من باب المطلق والمقيد " انتهى. "تفسير القرطبي" (3 / 179).
وهذا من كمال رحمة الله تعالى وحكمته ولطفه بعباده، فإن الله يعلم، والخلق لا يعلمون، وهو سبحانه أرحم بهم من أنفسهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فالدعوة التي ليس فيها اعتداء: يحصل بها المطلوب، أو مثله. وهذا غاية الإجابة. فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا. أو مفسدا للداعي أو لغيره. والداعي جاهل لا يعلم ما فيه المفسدة عليه. والرب قريب مجيب. وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه، وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه: أعطاه نظيره كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له. فإنه يعطيه من ماله نظيره. ولله المثل الأعلى " انتهى. "مجموع الفتاوى" (14 / 368).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ... والجواب عن ذلك أن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه، وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رفعه: ( مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ). ولأحمد من حديث أبي هريرة: ( إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ ). وله في حديث أبي سعيد رفعه: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ) وصححه الحاكم " انتهى. "فتح الباري" (11 / 95 – 96).
الخلاصة:
الحديث لا يعارض الآية بل يبيّنها ويقيّد معناها، كما قيّدت الاستجابة بالمشيئة.
والله أعلم.