213

ما وجه الجمع بين النهي عن الصلاة بعد العصر وحديث (إِلَّا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ)؟

السؤال: 529905

كيف الجمع بين الأحاديث التي ينهى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبين هذا الحديث: (لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة)
صحيح وروي بأكثر من إسناد وصححه جمع من العلماء؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

قد ثبت النهي عن التنفل بعد العصر، كما في حديث أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( لا صَلاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلا صَلاةَ ‌بَعْدَ ‌العَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ ) رواه البخاري (586)، ومسلم (827).

وكما في حديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن صَلاتَيْنِ: بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ) رواه البخاري (588)، ومسلم (825).

وروى البخاري (581)، ومسلم (826): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ: ( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ ).

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:

" قد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيه عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، فكان الذي يوجبه ظاهر هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الوقوف عن جميع الصلوات بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس ... " انتهى. "الأوسط" (3 / 88).

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى القول بمقتضى هذه الأحاديث.

قال الترمذي رحمه الله تعالى، عقب الحديث (183):

" قول أكثر الفقهاء من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، أنّهم كرهوا الصّلاة بعد صلاة الصّبح حتّى تطلع الشّمس، وبعد العصر حتّى تغرب الشّمس، وأمّا الصّلوات الفوائت فلا بأس أن تُقْضى بعد العصر وبعد الصّبح " انتهى.

وقال أيضا عقب الحديث (184):

" والّذي اجتمع عليه أكثر أهل العلم: على كراهية الصّلاة بعد العصر حتّى تغرب الشّمس، وبعد الصّبح حتّى تطلع الشّمس، إلّا ما استثني من ذلك … " انتهى.

وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (7 / 183):

"‌‌ ذهبت الحنفية والمالكية والشافعية إلى كراهة التنفل المطلق بعد صلاة العصر، لحديث الشيخين الذي تقدم: ( لا صَلاةَ ‌بَعْدَ ‌العَصْرِ ).

وذهب الحنابلة إلى جواز قضاء سنة الظهر بعد صلاة العصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نافلة الظهر بعد صلاة العصر " انتهى.

ثانيا:

ورد ما يعارض ظاهره هذه الأخبار، وهو ما رواه الإمام أحمد في "المسند" (2 / 322)، وأبو داود (1274)، والنسائي (573)، وابن خزيمة في "الصحيح" (2 / 184)، وابن حبان "الإحسان" (4 / 414): عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ الْأَجْدَعِ، عَنْ عَلِيٍّ: ( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِلَّا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ ).

وقد نص على صحته عدد من أهل العلم.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:

" حديث علي بن أبي طالب … وهي أحاديث ثابتة بأسانيد جياد، لا مطعن لأحد من أهل العلم فيها " انتهى. "الأوسط " (3 / 88).

وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:

" إسناده صحيح، وكذلك قال الحافظان العراقي والعسقلاني، وصححه ابن حبان أيضا وابن حزم.

إسناده: حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يِساف، عن وَهْبِ بن الأجْدَعِ، عن علي.

قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير وهب بن الأجدع، وهو ثقة اتفاقا.

ولذلك صحح الحديث: ابن حبان والعراقي والعسقلاني. وأعله البيهقي بما ليس بعلة قادحة " انتهى. "صحيح سنن أبي داود" (5 / 19).

وقد تباين اجتهاد أهل العلم أمام هذا الخبر.

فالقائلون بالنهي عن التنفل بعد العصر، وهم جمهور أهل العلم، ذهبوا إلى ترجيح أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر لأنها متفق على صحتها.

قال البيهقي رحمه الله تعالى معلقا على حديث علي رضي الله عنه:

" وهذا وإن كان أبو داود السّجستانىّ أخرجه في كتاب "السنن": فليس بمخرّج في كتاب البخاري ومسلم. ووهب بن الأجدع ليس من شرطهما، وهذا حديث واحد، وما مضى في النّهي عنهما ممتدّا إلى غروب الشّمس حديث عدد، فهو أولى أن يكون محفوظا. وقد روي عن عليّ رضي الله عنه ما يخالف هذا، وروي ما يوافقه … وقد حكى الشافعيّ رحمه الله هذه الأحاديث الثّلاثَة عن عليّ رضي الله عنه ثم قال: هذه أحاديث يخالف بعضها بعضا.

فالواجب علينا اتّباع ما لم يقع فيه الخلاف " انتهى. "السنن الكبير" (5 / 215 - 216).

وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:

" ولنا، ما ذكرنا من الأحاديث في أوّل الباب، وهي صحيحة صريحة، والتّخصيص في بعض الأحاديث لا يعارض العموم الموافق له، بل يدلّ على تأكّد الحكم فيما خصّه " انتهى. "المغني" (2 / 523).

فما ورد من تخصيص النهي بما بعد ميلان الشمس للغروب، فيه زيادة تأكيد للنهي المتعلق بهذا الوقت، ولا ينفي النهي الذي بعد العصر؛ لأن النهي عند الغروب هو المقصود أصالة، لأنها تغرب بين قرني الشيطان، والوقت قبلها الذي بعد العصر هو سد للذريعة، فينهى عنه أيضا، وتزداد قوة النهي كلما قرب الغروب.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" وأكثر من جعل ما بعد الفجر والعصر وقت نهي: حرم الصلاة فيه إلى طلوع الشمس وغروبها في الجملة، وإن أجاز بعضهم [أن الكراهة] في الوقتين الطويلين للتنزيه، روي ذلك صريحا عن ابن سيرين.

وسبب هذا: أن المقصود بالنهي بالأصالة هو وقت الطلوع والغروب؛ لما في السجود حينئذ من مشابهة سجود الكفار في الصورة، وإنما نهى عن الصلاة قبل ذلك سدا للذريعة؛ لئلا يتدرج بالصلاة فيه إلى الصلاة في وقت الطلوع والغروب، وقد جاء ذلك صريحا عن غير واحد من الصحابة والتابعين…

وقول من قال: إن النهي عنها كان سدا لذريعة الصلاة في وقت الكراهة الأصلي، فلا يكون محرما – غير صحيح؛ فإنه إذا ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، كان نهيه للتحريم، وإن كان معللا بسد الذريعة، كما نهى عن ربا الفضل معللا بسد الذريعة لربا النسيئة، وكل منهما محرم، وكما نهى عن شرب قليل ما أسكر كثيرة، لأنه ذريعة إلى السكر، وكلاهما محرم، ونظائر ذلك " انتهى. "فتح الباري" (5 / 52 - 54).

وذهب جماعة من أهل العلم، وهو مروي عن جمع من السلف إلى مشروعية التنفل بعد العصر، ما دامت الشمس مرتفعة لم تمل إلى الغروب، ومما احتجوا به حديث علي رضي الله عنه.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" وأما الوقتان المتسعان، وهما: بعد الفجر، وبعد العصر، فاختلف العلماء: فمنهم من قال: لا بأس بالصلاة فيهما، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة:

منهم: ابن عمر، وقد خرج البخاري قوله في الباب الاتي، ومنهم: عائشة ... ومنهم: بلال … وممن رخص في الصلاة بعد العصر والشمس مرتفعة: علي بن أبي طالب، والزبير، وتميم الداري، وأبو أيوب، وأبو موسى، وزيد بن خالد الجهني، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأم سلمة – رضي الله عنهم.

ومن التابعين: الأسود، ومسروق، وشريح، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن الأسود، وعبيدة، والأحنف بن قيس، وطاوس.

وحكاه ابن عبد البر، عن عطاء، وابن جريج، وعمرو بن دينار. … " انتهى. "فتح الباري" (5 / 47).

فأصحاب هذا القول يذهبون إلى أن حديث علي رضي الله عنه وما شابهه، يقيّد الأحاديث الواردة بإطلاق النهي عن الصلاة بعد العصر، فيكون المنهي عنه التنفل بعد العصر إذا مالت الشمس إلى الغروب.

وقد بوّب ابن خزيمة رحمه الله تعالى، على حديث علي رضي الله عنه، بقوله:

"‌‌ بَابُ ذِكْرِ الْخَبَرِ الْمُفَسِّرِ لِبَعْضِ اللَّفْظَةِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، وَالدَّلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ غَيْرَ مُرْتَفِعَةٍ، فَدَانَتْ لِلْغُرُوبِ " انتهى. "صحيح ابن خزيمة" (2/ 184).

وكذا بوّب عليه أيضا ابن حبان رحمه الله تعالى، بقوله:

"‌‌ ذِكْرُ خَبَرٍ ثَالِثٍ يُصَرِّحُ بِأَنَّ الزَّجْرَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ ذَلِكَ (الْبَعْدِ)؛ لَا الْكَلُّ" انتهى. "الإحسان" (4 / 429).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" وحكى أبو الفتح اليعمريّ عن جماعة من السّلف أنّهم قالوا: إنّ النّهي عن الصّلاة بعد الصّبح وبعد العصر، إنّما هو إعلام بأنّهما لا يتطوّع بعدهما، ولم يقصد الوقت بالنّهي كما قصد به وقت الطّلوع ووقت الغروب، ويؤيّد ذلك ما رواه أبو داود، والنّسائيّ بإسناد حسن عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصلّوا بعد الصّبح ولا بعد العصر، إلّا أن تكون الشّمس نقيّة )، وفي رواية: ( مرتفعة ).

فدلّ على أنّ المراد بالبعديّة ليس على عمومه، وإنّما المراد: وقت الطّلوع، ووقت الغروب، وما قاربهما واللّه أعلم " انتهى. "فتح الباري" (2/61).

والخلاصة:

هذه المسألة من مسائل الخلاف من عهد السلف الصالح، لورود هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض، فمنهم من رجح أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر للاتفاق على صحتها، وصراحة مفهومها، ومنهم من قيّد أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر بحديث علي رضي الله عنه وما شابهه من الأخبار.

والذي يظهر أن الأمر فيه سعة، إن شاء الله.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد: هل ترى بأسا أن يصلي الرجل تطوعا بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة؟

قال: لا نفعله، ولا نعيب فاعله ...

وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه، بل رأى أن من فعله متأولا، أو مقلدا لمن تأوله، لا ينكر عليه، ولا يعاب قوله؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ " انتهى. "فتح الباري" (5 / 49).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android