406

هل ورد عن السلف تفسير ( فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) بالقبلة؟

السؤال: 527584

هل هو صحيح أن بعض السلف فسر قول الله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله) بأن وجه الله هنا معناه قبلة الله؟ وإن صح، أليس هذا صرف عن الظاهر؟ قد أشكل علي هذا الأمر، وكيف أرد على من استدل بهذه الآية على أن الله تعالى في كل مكان؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

ورد عن بعض السلف عند تفسيرهم لقوله تعالى:

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ  البقرة/115.

قالوا: بأن "الوجه" في هذه الآية بمعنى القبلة.

قال البيهقي رحمه الله تعالى:

" وأمّا قوله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ، فقد حكى المزنيّ عن الشّافعيّ رضي الله عنه أنّه قال في هذه الآية: يعني واللّه أعلم: فثمّ الوجه الّذي وجّهكم اللّه إليه.

وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ النّضر، عن مجاهد، في قوله عز وجل: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ، قال: قبلة اللّه فأينما كنت في شرق أو غرب فَلا توجّهنّ إلّا إليها " انتهى. "الأسماء والصفات" (2 / 106).

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:

"وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ .

وقال عكرمة، عن ابن عباس: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: قبلة الله؛ أينما توجهت شرقا أو غربا.

وقال مجاهد: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها للكعبة " انتهى. "تفسير ابن كثير" (1 / 574).

وهذا القول هو المشهور عن السلف في تفسير هذه الآية.

ولا علاقة له ببدعة تأويل صفات الله تعالى المنهي عنه والذي يذهب إليه أهل الكلام.

ويظهر الفارق بين هذا التفسير وبين التأويل المبتدع من وجهين:

الوجه الأول:

أن القائلين بهذا التفسير، لم يرد عنهم تأويل صفة الوجه في سائر نصوص الوحي من كتاب وسنة، بل السلف من صحابة وتابعين ومن تبعهم بإحسان مجمعون على الاقرار بصفات الله تعالى، وعدم تأويلها.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" أهل السنة مجموعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة.

وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج: فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أثبتها نافون للمعبود.

والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله " انتهى. "التمهيد" (7 / 145).

وقال البغوي رحمه الله تعالى:

"‌ كل ‌ما ‌جاء ‌به ‌الكتاب ‌أو ‌السنة من هذا القبيل في صفات الله سبحانه وتعالى، كالنفس، والوجه، واليد، والرجل ... فهذه ونظائرها صفات لله تعالى، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضا فيها عن التأويل، مجتنبا عن التشبيه، معتقدا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

وعلى هذا مضى سلف الأمة وعلماء السنة، تلقوها جميعا بالإيمان والقبول، وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل " انتهى. "شرح السنة" (1 / 168 – 170).

فمن روي عنه هذا التفسير روي عنه أنه يثبت صفة الوجه لله تعالى.

ففي تفسير قوله تعالى:

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ يونس/26.

قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:

" وروي عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وحذيفة بن اليمان وابن عبّاس ... ‌ومجاهد وقتادة ...: إنّ الزّيادة النّظر إلى وجه اللّه عز وجل" انتهى. "تفسير ابن أبي حاتم" (6 / 1945).

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:

"وقال مجاهد والثوري في قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ : أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له " انتهى. "تفسير ابن كثير" (6 / 45).

الوجه الثاني:

أن من يؤول نصوص الصفات، يؤولها زعما منه أن في هذا التأويل تنزيها لله تعالى عن التشبيه، ولذا يتكلفون التأويل بالأوجه الباطلة.

وأما من فسر "الوجه" في هذه الآية بالقبلة، فليس لأن اثبات الصفة يوهم عنده تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه، بل لأنه رأى هذا التفسير هو الأنسب لسياق الآية، ولغة العرب تحتمله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ( الوجه ) هو الجهة في لغة العرب يقال: قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا " الوجه " أي: إلى هذه الجهة، وهذا كثير مشهور فالوجه هو الجهة.

وهو الوجه: كما في قوله تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا أي متوليها، فقوله تعالى: وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا كقوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ كلتا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان، وكلاهما في شأن القبلة، والوجه والجهة: هو الذي ذكر في الآيتين أنا نوليه؛ نستقبله.

قلت: والسياق يدل عليه لأنه قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وأين من الظروف وتولوا أي تستقبلوا. فالمعنى: أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا، بعد قوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، وهي الجهات كلها كما في الآية الأخرى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ؛ فأخبر أن الجهات له، فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص وتشريف؛ كأنه قال جهة الله وقبلة الله.

ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك: جهة الله؛ أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة، وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، ‌فَإِنَّ ‌اللهَ ‌قِبَلَ ‌وَجْهِهِ، ، وكما في قوله: لا يزال الله مقبلا على عبده بوجهه ما دام مقبلا عليه فإذا انصرف صرف وجهه عنه ويقول: إن الآية دلت على المعنيين. فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه.

والغرض أنه إذا قيل: " فثم قبلة الله ": لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه ... " انتهى. "مجموع الفتاوى" (6 / 16 - 17).

فلا يصح أن يجعل تفسير هؤلاء السلف كتفسير نفاة الصفات.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار ‌بطريقة ‌القائل، وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عليه " انتهى. "مدارج السالكين" (4 / 552).

ثانيا:

الآية ليس فيها نص على أن الله تعالى في كل مكان، وليس هذا الفهم لازما لمعناها، بل هو مناقض لمعنى الآية، لأن الله تعالى لو كان في كل مكان تعالى سبحانه عن ذلك، لما كان هناك حاجة أصلا للتوجه؛ لأنه بهذا القول الباطل سيكون الله تعالى في نفس مكان المصلي؟!

وإنما الآية تنص على الجهة، كما سبق بيان ذلك في كلام شيخ الإسلام.

ثم لا يصح عقلا ولا شرعا، أن يتمسك الشخص بفهم مشتبه لهذا النص، ثم يعرض عن جميع النصوص المتواترة المصرحة بعلو الله تعالى على خلقه، وأنه فوق السماوات، على العرش استوى.

وقد انعقد الإجماع على هذه الصفة؛ صفة العلو.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة: مملوء بما هو: إما نص، وإما ظاهر؛ في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو على كل شيء، وأنه ‌فوق ‌العرش، وأنه فوق السماء " انتهى. "مجموع الفتاوى" (5 / 12).

وقال الذهبي رحمه الله تعالى:

" الدليل على أن الله تعالى فوق العرش، فوق المخلوقات، مباين لها، ليس بداخل في شيء منها، وعلى أن علمه في كل مكان= الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، والتابعين، والأئمة المهديين " انتهى. "العرش" (2 / 5).

فالتمسك بالمتشابه ورد النصوص المحكمة به، هو طريق وسبيل أهل الضلال، كما نص الله تعالى على ذلك في كتابه الكريم، وبيّنه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ  آل عمران/7.

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) ... قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ  رواه البخاري (4547).

أما الراسخون في العلم ومنهم سلفنا الصالح؛ فإنهم يفهمون النصوص المشكلة على ضوء النصوص والأدلة الثابتة والواضحة التي لا اشكال فيها.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق، وهي أنهم يردُّون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يُفسِّر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضُها بعضًا، ويصدُّق بعضُها بعضًا، فإنَّها كلها من عند اللَّه، وما كان من عند اللَّه فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره " انتهى . "اعلام الموقعين" (4 / 58).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android