جملة ( وَيَكُونُ مُلْكُهُ بِالشَّامِ ) ليس لها إسناد صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما صحت من كلام كعب الأحبار، وما في كتب أهل الكتاب لا نصدقه ولا نكذبه إلا بدليل.
هل صحيح أن ملك النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالشام؟
السؤال: 526945
وقفت على بعض الآثار لكعب الأحبار، إذ قال عندما سأله ابن العباس رضي الله عنه عن ذكر النبي في التوراة قمنا، قال: إن اسمه محمد بن عبدالله، يولد بمكة، ويهاجر إلى طيبة، ويكون ملكه في الشام"، فهل يصح هذا الأثر علما بأن هناك آثر آخر مشابها مع عدم ذكر هذه الجزئية، وإن صح فكيف يكون ملكه في الشام، والرسول مات قبل فتح الشام؟
ملخص الجواب
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
روى الحاكم في "المستدرك" (3 / 72)، والبيهقي في دلائل النبوة" (6 / 447)، وغيرهما: عن هُشَيْم، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ.
وإسناد هذا الخبر ضعيف.
قال الذهبي : " سليمان بن أبي سليمان وأبوه مجهولان " انتهى.
وجاء في "المنتخب من علل الخلال" (1 / 228):
" قال [مهنا]: وسألت يحيى، عَن سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَان، يُحَدِّثُ عَنْهُ الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عن أبي هريرة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( الْخِلافَةُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ ).
فقال: لا نعرف هذا -يعني: سُلَيْمَانَ بن أبي سليمان.
وقال لي أحمد: أصحاب أبي هريرة المعروفون؛ ليس هذا عندهم " انتهى.
وورد موقوفا من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، في "الفتن" لنعيم بن حماد (1 / 104)، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه قَالَ: ( الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ ).
وإسناده أيضا ضعيف، كما هو واضح، فالراوي عن أبي هريرة مجهول.
ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1 / 184): عن هشام بن عمار، حدثنا شهاب بن خراش، حدثنا عبد الملك بن عمير، عمن حدثه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خلافتي بالمدينة، وملكي بالشام ).
وهذا إسناد ضعيف:
لأن هشام بن عمار، متكلم في ضبطه؛ بسبب أنه لما كبر صار يلقن فيتلقن.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"هشام بن عمار، خطيب دمشق، ومقرئها: ثقة مكثر، له ما ينكر، قال أبو حاتم: صدوق قد تغير، وكان كلما لقنه تلقن … " انتهى. "المغني في الضعفاء" (2 / 711).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" هشام بن عمار…: صدوق مقرئ، كبر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح " انتهى. "تقريب التهذيب" (ص573).
ثم هناك جهالة من حدث عبد الملك بن عمير بهذا الخبر.
وقد روي نحو هذا الخبر عن عبد الملك بن عمير أيضا، لكنه ساق سنده إلى كعب الأحبار.
روى الدارمي "المسند" (1 / 158)، قال: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ كَعْبٍ: " فِي السَّطْرِ الْأَوَّلِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَبْدِي الْمُخْتَارُ، لَا فَظَّا، وَلَا غَلِيظًا وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، مَوْلِدُهُ، بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ …".
وهذا الإسناد إلى كعب ضعيف؛ لضعف زيد بن عوف، فهو متروك.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"زيد بن عوف أبو ربيعة، ولقبه فهد…: تركوه" انتهى. "المغني في الضعفاء" (1 / 247).
لكن ورد له إسناد صحيح إلى كعب الأحبار، وأسند كعب الخبر إلى التوراة.
رواه الدارمي في "المسند" (1 / 158)، وابن سعد في "الطبقات" (1 / 309): عن مَعْن بْن عِيسَى، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ: كَيْفَ تَجِدُ نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: " نَجِدُهُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهَ يُولَدُ بِمَكَّةَ، وَيُهَاجِرُ إِلَى طَابَةَ، وَيَكُونُ مُلْكُهُ بِالشَّامِ … ".
وهذه الأخبار وإن لم تصح نسبة ألفاظها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض أهل العلم رأى أنّه يشهد لمعانيها ما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح في "المسند" (36 / 62)، وغيره: عن يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ.
وله شواهد لا تخلو أسانيدها من ضعف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وأخرج أحمد، ويعقوب بن سفيان، والطّبرانيّ أيضا عن أبي الدّرداء رفعه: ( بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ ) الحديث، وسنده صحيح …
وفي الباب عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عند أحمد، والطّبرانيّ بسند ضعيف، وعن عمر عند يعقوب، والطّبرانيّ كذلك، وعن ابن عمر في فوائد المخلص كذلك، وهذه طرق يقوّي بعضها بعضا، وقد جمعها ابن عساكر في مقدّمة "تاريخ دمشق"، وأقربها إلى شرط البخاريّ حديث أبي الدّرداء؛ فإنّه أخرج لرواته، إلّا أنّ فيه اختلافا على يحيى بن حمزة في شيخه، هل هو ثور بن يزيد أو زيد بن واقد، وهو غير قادح لأن كلا منهما ثقة من شرطه، فلعله كتب الترجمة وبيض للحديث لينظر فيه، فلم يتهيأ له أن يكتبه ...
العلماء بالتعبير قالوا: من رأى في منامه عمودا، فإنه يعبر بالدين، أو برجل يعتمد عليه فيه، وفسروا العمود بالدين والسلطان " انتهى. "فتح الباري" (12 / 402 - 403).
وسنة الله تعالى في خلقه أن شرائع الكتاب لا تمكّن في بلد إلا بسلطان.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وقد ذكرنا في أول الباب الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتأويل آية استقرار الكتاب بالشام بالملك، فإن الكتاب إِنَّمَا يقام به، بملك يؤيده، ويقاتل به من خرج عنه، كما جمع الله بين الأمرين في قوله: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )، وروى العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الخلافة بالمدينة، والملك بالشام ).
وروى شهاب بن خراش، حدثنا عبد الملك بن عمير، عمن حديثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خلافتي بالمدينة، وملكي بالشام )."فضائل الشام" (3 / 190).
وقال قبل هذا:
" ما ورد في استقرار العِلْم والإيمان بالشام:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ عَمُودَ الْكِتَابِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ عُمِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتِ الْفِتَنُ بِالشَّامِ )، خرّجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وفي رواية خرّجها أبو القاسم بن عساكر في "تاريخ دمشق": ( فَأَوَّلتُهُ المُلْك ) … " انتهى. "فضائل الشام" (3/ 187).
والخلاصة:
عبارة ( وَيَكُونُ مُلْكُهُ بِالشَّامِ ) ليس لها إسناد صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما صحت من كلام كعب الأحبار منسوبة إلى التوراة، وما في كتب أهل الكتاب لا نصدقه ولا نكذبه إلا بدليل.
على أنه: لا يشكل على هذه العبارة -بتقدير ثبوتها- كون النبي صلى الله عليه وسلم توفي قبل فتح الشام؛ لأن ما يقع في أمته من الخير والفضل، ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو الداعي إليه، ولأنه صلى الله عليه وسلم هو قائد الأمة.
والله أعلم.
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟