اختلاف العلماء في إثبات صفة الهرولة

السؤال: 520838

هل حديث (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) يفيد إثبات صفة الهرولة؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

روى البخاري (7405) ومسلم (2675) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).

واختلف أهل العلم في معنى قوله: (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) على قولين:

الأول: أن المراد به ضرب مثل لكرم الله وجوده على عبده، ومعناه: أن العبد إذا تقرب إلى الله تعالى بالطاعة والأعمال الصالحة، تقرب الله إليه بالثواب والرحمة والكرامة ومضاعفة الأجر، أو زاده قربًا إليه، فمثَّل القليل من الطاعة بالشبر -أي قدر شبر- والزيادة عليه بالذراع، وبذل الجهد من الطاعة بالمشي، وقابل كلًا منها بما هو أقوى وأزيد، تكرمًا منه وفضلًا.

وعليه، فلا يؤخذ من هذا الحديث إثبات الهرولة صفة لله تعالى.

وهذا التفسير للحديث هو ظاهر كلام قتادة -رحمه الله تعالى- حيث قال بعد روايته لهذا الحديث: "والله أسرع بالمغفرة" رواه أحمد في مسنده (١٩/ ٣٩٧)، وحكم المحقق -شعيب الأرنؤوط- على إسناده بالصحة، وأخرجه أيضًا البغوي في شرح السنة (٥/ ٢٣)، وقال عنه: "صحيح"، وانظر: إبطال التأويلات (٢/ ٤٥٠).

كما أنه مروي عن الأعمش وهو قول إسحاق بن راهويه وابن قتيبة.

 وهو أيضا: ظاهر اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، عليهم رحمة الله، وإليه ذهب الشيخ عبد الله الغنيمان.

انظر: "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" للغنيمان (١/٢٧١).

وعليه عامة أهل التأويل من شراح الحديث وغيرهم .

انظر: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (٣/ ٩٤)، وأعلام الحديث للخطابي (٤/ ٢٣٥٨)، والأسماء والصفات للبيهقي (٢/ ٣٨٤)، وشرح السنة للبغوي (٥/ ٢٦)، والمعلم للمازري (٣/ ١٨٤)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (٨/ ١٧٤)، والمفهم للقرطبي (٧/ ٨)، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (٥/ ٢٦١)، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لأبي عبد الله القرطبي (١٥٢)، وشرح صحيح مسلم للنووي (١٧/ ٦)، وإيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل لابن جماعة (١٩٢)، وفتح الباري (١٣/ ٥١٣ - ٥١٤)، ومنة المنعم في شرح صحيح مسلم لصفي الرحمن المباركفوري (٤/ ٣٣٢).

قال الترمذي رحمه الله: "ويروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث: من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، يعني: بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، قالوا: إنما معناه يقول: إذا تقرب إليَّ العبد بطاعتي وما أمرت، أُسْرِع إليه بمغفرتي ورحمتي" سنن الترمذي (5/581) (3603).

وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله في معنى هذا الحديث: "يعني: من تقرب إلى الله شبرًا بالعمل، تقرب الله إليه بالثواب باعًا" انتهى من "مسائل الإمام أحمد بن محمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، رواية حرب الكرماني" (٣٤٥).

وقال ابن قتيبة رحمه الله: "وإنما أراد: من أتاني مسرعًا بالطاعة، أتيته بالثواب أسرع من إتيانه؛ فكنى عن ذلك بالمشي والهرولة" تأويل مختلف الحديث: (٢٠٩).

وقال ابن تيمية: "ولا ريب أن الله تعالى جعل تقربه من عبده جزاءً لتقرب عبده إليه؛ لأن الثواب أبدًا من جنس العمل، كما قال في أوله: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم"...

وإذا كان كذلك فظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة ...

ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه، شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة، ولكن قد يقال: عدم ظهور هذا للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه" انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (6/101).

القول الثاني:

أن (الهرولة) صفة فعلية خبرية، ثابتة لله تعالى بهذا الحديث: (وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة).

وقد صرح بكونها صفة لله تعالى بعض العلماء المعاصرين، كأعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، والشيخ محمد العثيمين -رحمه الله-، وقد أطال النفس في تقرير ذلك وإثباته.

وعلى هذا القول جرى تبويب الهروي في كتابه الخاص بـالصفات الإلهية"، فقد عقد بابًا بعنوان: "باب الهرولة لله عزَّ وجلَّ" ، ثم ساق تحته هذا الحديث.

انظر: الأربعين في دلائل التوحيد (٧٩).

وأما اللجنة الدائمة فقد قالوا -بعد أن سُئلوا: هل لله صفة الهرولة؟ -: "نعم، صفة الهرولة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به" فتاوى اللجنة الدائمة (٣/ ١٩٦)، وانظر: تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي للدكتور عبد الرزاق البدر (١٦٩).

وقال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: "صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح ... وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها" انتهى من "إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار" (٢٤)، وانظر: صفات الله عزَّ وجلَّ الواردة في الكتاب والسنة لعلوي السقاف (٢٦٢).

وعمدة أصحاب هذا القول هو ظاهر الحديث، فقالوا: إن ظاهره يدل على إثبات هذه الصفة لله تعالى. انظر: إزالة الستار (٢٤ - ٣١)، والقواعد المثلى (٧٠).

الترجيح:

من المقرر أن الواجب هو العمل بالظاهر المتبادر للذهن، وهو يختلف بحسب السياق.

قال ابن القيم رحمه الله: "كل موضع ظهر فيه المراد بذلك التركيب والاقتران، فهو ظاهره وحقيقته، لا ظاهر له غيره، ولا حقيقة له سواه، فقوله تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النحل/ ١١٢] حقيقته وظاهره أنه أجاعها بعد شبعها، وأخافها بعد أمنها، وألبس بواطنها ذل الجوع والخوف" مختصر الصواعق (٢/ ٣١٧).
وبناءً عليه، فإن لفظ الهرولة وإن كان معناه: الإسراع في المشي، إلا أنه لا يقتضي أن يكون هذا معناه المراد منه في كل سياق ورد فيه، وإنما السياق هو الذي يحدد معناه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن قرب الله تعالى: "ولا يلزم من جواز القرب عليه، أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دلَّ على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه" انتهى من "مجموع الفتاوى" (٦/١٤).

وعلى ذلك يقال:

الهرولة في هذا الحديث معناها: مجازاة الله تعالى وإثابته لعبده بأكمل وأفضل من عمله -على ما جاء في القول الأول- وليس المراد بها: المشي السريع، فتثبت صفةً لله تعالى، كما أن تقرب العبد بالشبر والذراع لا يراد به حقيقة الشبر والذراع، وإنما يراد به قدرهما، وإلا فما موضع العبادات القلبية -والتي هي من أعظم العبادات وعليها تنبني أعمال الجوارح- كالخوف والرجاء والمحبة والتوكل ... ؟

وكذا العبادات القولية كالذكر والدعاء والاستغفار، هل نخرجها من هذا الحديث؟!

وليس هذا تأويلًا للحديث وحملًا له على غير ظاهره، بل هو حقيقة معناه، وظاهر سياقه، وقد بيَّنا أن ظاهر اللفظ: هو ما ظهر منه في السياق الذي ورد فيه، لا ما ظهر منه في سياق آخر.

قال ابن تيمية، رحمه الله: «ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه، شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة.

لكن قد يقال: عدم ظهور هذا، هو للقرينة الحسية العقلية؛ وهو أن العبد يَعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكًا.

يقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد، هي أبلغ من القرينة اللفظية؛ فيكون معنى الخطاب ما ظهر بها، لا ما ظهر بدونها.

فقد تنازع الناس في مثل هذه القرينة المقترنة باللفظ العام: هل هي من باب التخصيصات المتصلة أو المنفصلة؟

وعلى التقديرين: فالمتكلَّم الذي ظهر معناه بها، لم يُضِل المخاطب، ولم يُلبس عليه المعنى؛ بل هو مخاطِب له بأحسن البيان» انتهى، من بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 103-104).

ثم إن من جعل تقرب العبد الوارد في الحديث، لا يراد به التقرب بالمساحة المذكورة -وهو الحق كما تقدم- فإنه يلزمه أن يجعل تقرب الله تعالى كذلك، لأن ظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة ، ومن فرق بينهما فقد تناقض.

يقول شيخ الإسلام: " هذا الحديث ليس فيه إخبارٌ مطلق عن الله بمشيٍ وهرولةٍ، وإنما هو معلّقٌ بفعل العبد، مذكورٌ على سبيل الجزاء والمقابلة، فقال: من تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة.

فتقرُّب العبد إلى ربّه [لو كان] مقدّرًا بالمساحة متضمِّنًا للمشي، أمكن أن يقول القائل: فظاهر هذا الحديث أن تقرّب الرّب كذلك، وإن كان العبد يعلم أن تقرّبه إنما هو [بإيمانه]، وعمله الصالح، فكيف يظنّ في تقرّب الربّ ما لا يظنه في تقرّبه بنفسه؟!

والغرض اقتراب أحد المتقرّبين بالآخر، أو ذِكْره لأحدهما على سبيل الجزاء على الآخر والثواب له، وأن الأول شرطٌ لغوي، وهو سبب معنوي، والمسبّب من جنس السبب.

فهذا التركيب والتأليف يوجب أن لا يدلّ الثاني ولا يُفْهِم ما يُعْلَم أنّ الأوّل لم يدلّ عليه ولم يُفْهِمه. فكيف يُظنّ أن يكون ظاهر ما حكاه عن ربّه هو ما يُنزِّه نفسَه عنه؟!». انتهى، من جامع المسائل - ابن تيمية (7/ 360).

ومثل هذا الحديث ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهلية)، وفي رواية: (من فارق الجماعة شبرًا) رواه البخاري (٦٦٤٥)، ومسلم (١٨٤٩).

فإنه لا يفهم من ظاهره أن المراد بالشبر شبر المساحة، وإنما المراد به كما هو ظاهر سياقه: التمثيل والتقريب، ومعناه: النهي عن معصية السلطان، ومفارقة الجماعة، ولو بأقل القليل.

قال الحافظ ابن حجر: "قوله: (شبرًا): هي كناية عن معصية السلطان ومحاربته، قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة: السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق" فتح الباري (١٣/ ٦ - ٧) بتصرف يسير.

ومثله -أيضًا- قوله -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث أبي هريرة: (ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأً أو معاذًا فليعذ به)، رواه البخاري (3601)، ومسلم (٢٨٨٦).

إذ ليس المراد به ذات القعود وذات القيام، وإنما المراد به: التنبيه على عظم وخطر الدخول فيها، والحض على تجنبها، والإمساك عن التشبث بشيء منها، وأن بلاءها بقدر مبلغ الإنسان منها، ودخوله فيها، ولهذا حض النبي -صلى الله عليه وسلم- على الهروب عنها.

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (٨/ ٤١٨)، وفتح الباري (١٣/ ٣٠).

والقول: بهذا المعنى للهرولة، (ليس هروبًا من إثباتها صفةً لله تعالى؛ لأنها توهم معنى فاسدًا -كما هو منهج نفاة الصفات-)، وإنما لأن سياق الحديث وظاهره يدل عليه، ولو لم يرد في السياق ما يدل عليه لتعين إثباتها صفة لله تعالى على ما يليق بجلاله، ولذلك فقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات صفة المجيء والإتيان له سبحانه على ما يليق بجلاله، لدلالة النصوص الصحيحة عليهما.

انظر: "عقيدة السلف وأصحاب الحديث" للصابوني (١٩٢)، و"مجموع الفتاوى" (٥/ ٥٧٧ - ٥٧٨).

والهرولة من جنسهما، ولكن لأنه لم يدل دليل صريح على إثباتها صفة لله تعالى فإنه لا يتوجه إثباتها صفة له.

انظر: رسالة دكتوراه- "أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين" (175-187)، وفتوى رقم: (291060).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android