أولا:
إذا ترك الميت مالًا يكفي لوفاء دينه، فإن دينه يقضي عنه من هذا المال، ثم تُقسم بقية تركته بين الورثة.
وأما إذا لم يترك وفاء لدينه، فاختلف الفقهاء في جواز وفاء هذا الدين من سهم الغارمين في الزكاة.
فذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز قضاء دين الميت من سهم الغارمين.
قال الزيلعي في "تبيين الحقائق" (1/300): "لا يجوز أن يكفن بها ميت، ولا يقضى بها دين الميت؛ لانعدام ركنها وهو التمليك".
وقال العمراني رحمه الله تعالى: "إذا مات رجل، وعليه دين، ولا تركة له.. فهل يجوز قضاؤه من سهم الغارمين؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الصيمري -: أنه لا يجوز؛ وهو قول النخعي، وأبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم؛ لأن المزكي يحتاج أن يُمَلِّك المعطَى، ولا يمكن هاهنا.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في المعتمد -: أنه يجوز؛ لقوله تعالى (الغارمين) ولم يفرق بين الحي والميت.
ولأنه يجوز التبرع بقضاء دينه، فجاز له قضاء دينه من الزكاة، كالحي". انتهى من "البيان في مذهب الإمام الشافعي" (3/ 424).
قال النووي: "ذكر صاحب البيان: أنه لو مات رجل عليه دين ولا وفاء له، ففي قضائه من سهم الغارمين وجهان، ولم يبين الأصح، والأصح الأشهر: لا يقضى منه". انتهى من "روضة الطالبين وعمدة المفتين" (2/ 320)
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (2/281) : " قَالَ الإمام أحمد لا يُكفَّنُ الميِّتُ من الزَّكاة، ولا يُقضَى من الزَّكاة دَيْنُ الميِّت، وإِنَّما لم يجز دفْعُها في قضاء دينِ المَيِّتِ؛ لأَنَّ الْغارِمَ هو المَيِّتُ، ولا يُمكِنُ الدَّفع إليه، وإِن دفَعَها إلى غريمه، صار الدَّفْعُ إلى الغريم لا إلى الغارِم" انتهى .
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين، قال في "الشرح الممتع" (6/236) : " لا يقضى دين الميت من الزكاة لأمور ثلاثة :
أولاً : أن الظاهر من إعطاء الغارم أن يُزال عنه ذل الدَّين .
ثانياً : أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يقضي ديون الأموات من الزكاة، فكان يؤتى بالميت وعليه دين فيسأل صلّى الله عليه وسلّم هل ترك وفاء؟ فإن لم يَتْرك، لم يُصلِّ عليه. وإن قالوا: له وفاء، صلى عليه، فلما فتح الله عليه، وكثر عنده المال: صار يقضي الدين بما فتح الله عليه عن الأموات.
ولو كان قضاء الدين عن الميت من الزكاة جائزاً، لفعله صلّى الله عليه وسلّم.
ثالثاً: أنه لو فتح هذا الباب لعطل قضاء ديون كثير من الأحياء؛ لأن العادة أن الناس يعطفون على الميت أكثر مما يعطفون على الحي، والأحياء أحق بالوفاء من الأموات" انتهى بتصرف.
ثانيًا:
ذهب بعض العلماء إلى جواز قضاء دين الميت من الزكاة.
وهو مذهب المالكية، ووجه عند الشافعية، ورواية عن أحمد.
قال خليل بن إسحاق: " وفي دين الميت قولان: قال ابن حبيب: يقضي دينه منها، وقال ابن المواز: لا يقضى، والأول أصح، والميت أحق بالقضاء". انتهى من "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" (2/ 351)
وحجتهم: أن الميت يُعد من الغارمين، فهو داخل في عموم قوله تعالى: وَالْغَارِمِينَ، ولم يُفرَّق بين الحيِّ والميِّت، ومن أخرجه من هذا العموم طولب بالدليل.
ويجاب عما احتج به من قال بالمنع:
1- أما القول بأن شرط الزكاة التمليك، وهو متعذر في حق الميت، فيجاب عن ذلك بأن الآية فرّقت بين مصارف الزكاة الثمانية؛ فاستعملت حرف (اللام) في الأربعة الأولى: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...، واستُعملت حرف (في) في الأربعة الأخيرة: وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ... [التوبة: 60].
ووجه ذلك: أن الأصناف الأولى تُملَّك لهم الصدقات، بخلاف الأربعة الأخيرة فإن المقصود الصرف في مصالحهم. ينظر: "الانتصاف من الكشاف" لابن المنير (2/283).
قال الخازن في "لباب التأويل في معاني التنزيل" (2/ 375): " فلا بد لهذا الفرق من فائدة، وهي أن الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها يُدفع إليهم نصيبهم من الصدقات، فيصرفون ذلك فيما شاؤوا، وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في تخليص رقابهم من الرق، ولا يدفع إليهم، ولا يمكنون من التصرف فيه، وكذا القول في الغارمين فيصرف نصيبهم في قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو، وكذا ابن السبيل فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه".انتهى
2- القول بأن الغرض إزالة ذل الدين عن الغارم، وهذا لا يتحقق في الميت، يجاب عنه بأن إزالة ذل الدين إحدى الحِكم، وليست الحِكمة الوحيدة، بل من أعظم مقاصد هذا السهم: إبراء ذمة المدين وإسقاط ما في عهدته، وهذا المعنى متحقق في حق الحي والميت معًا، بل هو في الميت أولى؛ لأنه لا يملك بعد موته وسيلةً للقضاء ولا فسحةً للوفاء.
3-ليس ثمَّة دليل صريح على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي ديون الأموات من الزكاة، وإنما غاية ما في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم التزم قضاء دين من مات ولم يترك وفاء، دون أن يُبيَّن مصدر هذا السداد، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه كان يقضيه من سهم الغارمين.
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: (هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟) فإن حُدِّث أنه ترك لدينه وفاء صلَّى، وإلا قال للمسلمين: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ).
فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ).
قال ابن بطال: " وقوله: (فعليَّ قضاؤه) يعنى مما يفىء الله عليه من المغانم والصدقات التي أمر الله بقسمها على الغارمين والفقراء". انتهى من "شرح صحيح البخاري" (6/428).
وقال ابن عبد البر في شرح الحديث: "وأما من ادَّان في حقٍّ واجبٍ لفاقة وعُسرة، ومات ولم يترك وفاء؛ فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين من صنوف الفيء". انتهى من "التمهيد" (15/ 176).
وقال ابن هبيرة: "وفيه من الفقه: أن الرجل إذا ترك دينًا ولم يترك قضاء له، قضي من سهم الغارمين، أو الفيء إلا أنه ينبغي للإنسان أن لا يتوسع في الدين اتكالًا على هذا، ولا يَدَّان إلا بقدر ضرورته، ناويًا للقضاء بجهده. فإن سبقه الموت وفي ذمته دين لم يقضه: تعين قضاؤه من بيت المال". انتهى من "الإفصاح عن معاني الصحاح" (6/183).
وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي ديون الأموات من مال الفيء خاصة، فليس في ذلك ما يدل على منع دفعها من الزكاة إن تعذر القضاء من بيت المال.
4-وأما أن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى تعطيل قضاء ديون كثير من الأحياء، فليس موجبًا للمنع؛ إذ الميت أولى بالإبراء لكونه قد انقطعت أعماله وانغلق أمامه باب الوفاء، بخلاف الحي فإن في عمره متسعًا يُرجى معه قضاء دينه.
والحاصل:
أن القول بجواز دفع الزكاة في قضاء دين الميت إذا لم يترك وفاءً قولٌ قويٌّ معتبر، يحقق جملةً من المصالح الشرعية، إذ الدين يبقى شاغلًا لذمة الميت، وسببًا لبلائه بعد وفاته، كما في الحديث: (لَا تَزَالُ نَفْسُ ابْنِ آدَمَ مُعَلَّقَةً بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) رواه أحمد (10599)، والترمذي (1078) وصححه الألباني.
وفي وفاء دينه من مال الزكاة إبراء لذمته، وتخفيف عنه، مع رد الحقوق إلى أهلها، وذلك يوافق مقصود الشرع في رعاية مصالح الأحياء والأموات معًا.
ويقوى الأخذ بهذا القول: إذا كان الدين ينتقل إلى ذمة الأحياء، بحكم واقع الناس وعرفهم؛ كأن يكون في أجرة مسكن كما في السؤال، ويبقى صاحب المسكن يطالبهم به، أو يلزمهم النقلة عنه، بما يشق عليهم، أو يكلفهم ما لا يقدرون عليه.
وقد رجح هذا القول عدد من أهل العلم.
قال ابن تيمية: "وأما الدين الذي على الميت: فيجوز أن يوفَّى من الزكاة في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن الله تعالى قال: والغارمين ولم يقل وللغارمين، فالغارم لا يشترط تمليكه، وعلى هذا يجوز الوفاء عنه وأن يملك لوارثه ولغيره". انتهى من "مجموع الفتاوى" (25/80)
وفي "فتاوى اللجنة الدائمة" - المجموعة الأولى- برئاسة الشيخ ابن باز (10/ 33): "الأصل في الشريعة الإسلامية أن من مات من أفراد المسلمين الملتزمين لتعاليم دينهم وعليه دين لحقه في تعاطي أمور مباحة ولم يترك له وفاء -أن يشرع قضاؤه عنه من بيت مال المسلمين ...
فإذا لم يتيسر قضاؤه من بيت المال، جاز أن يقضى دينه من الزكاة، إذا لم يكن الدافع هو المقتضي". انتهى
وبه صدَر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حيث قالوا: "يشمل سهم الغارمين: مَن ترتبت في ذمتهم ديون لمصلحة أنفسهم، ومن استدان لإصلاح ذات البين بالضوابط الشرعية، ويلحق بذلك تسديد الديات المترتبة على القاتلين خطأ، ممن ليس لهم عاقلة، وديون الميت إن لم يكن له تركة يوفى منها دينه، وهذا إذا لم يتم دفعها من بيت المال (الخزانة العامة)"، انتهى من "قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي" (ص: 317).
وينبغي التنبه إلى أن قضاء دين الميت من الزكاة مشروط بأن يكون الدين قد نشأ عن حاجة مباحة معتبرة، لا عن معصية أو تبذير، ومن ذلك أجرة السكن ونحوها من الضروريات التي لا يستغني عنها الإنسان.
والله أعلم.