هل تنجس المائعات إذا وقعت فيها نجاسة يسيرة؟

السؤال: 520737

كنت أقوم بفتح تنكة زيت الزيتون، وأثناء فتحها جرحت يدي، ونزل بعض قطرات الدم في تنكة الزيت، فما حكم هذا الزيت؟

ملخص الجواب

المائع إذا كان كثيرا ووقعت فيه نجاسة ولم تغيره، فالصواب أنه طاهر، وأما إن كان المائع شيئاً قليلاً، فالخلاف فيه قوي، والأحوط تركه وإراقته.

موضوعات ذات صلة

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولاً:

سبق في جواب السؤال: (224923) بيان حكم الماء إذا وقعت فيه النجاسة، وأن العبرة بالتغير، ومن العلماء من فرق بين قليل الماء وكثيره.

أما سائر المائعات، كالزيت والعصير والسمن والحليب، والعسل، ونحوها، فهل تأخذ حكم الماء إذا وقعت فيها نجاسة من النجاسات؟ أم لها حكم مختلف؟

الذي عليه جمهور العلماء من مختلف المذاهب الفقهية أن المائعات ليست كالماء، بل تنجس بمجرد وقوع النجاسة فيها، سواء تغيرت أم لم تتغير، وسواء كان المائع قليلاً أم كثيراً، وحتى لو كانت النجاسة قليلة.

قال النووي: " أما غير الماء من المائعات، وغيرها من الرطبات، فينجس بملاقاة النجاسة وإن بلغت قلالاً... لأنه لا يشق حفظ المائع من النجاسة، وإن كثر، بخلاف كثير الماء ". انتهى من "المجموع شرح المهذب" (1/125).

وذكر ابن عبد البر أنّ هذا قول جمهور العلماء، وجماعة أئمة الفتيا بالأمصار. ينظر: " الاستذكار" (8/507).

واستدلوا على ذلك بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ عن مَيْمُونَةَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ). رواه النسائي (4260)، وأبو داود (3842).

قال ابن قدامة: "وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَثِيرِهِ وَقَلِيلِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا قُوَّةَ لَهَا عَلَى دَفْعِ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّهَا لَا تُطَهِّرُ غَيْرَهَا، فَلَا تَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهَا كَالْيَسِيرِ ". انتهى من " المغني" لابن قدامة (1 /44)

وقالوا: إنّ هذا المائع بعد تنجسه بوقوع النجاسة فيه، لا يقبل التطهير، فلو أمكن تطهيرها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها، لما في ذلك من إضاعة المال، " وَلَوْ كَانَ إلَى تَطْهِيرِهِ طَرِيقٌ لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ ". انتهى من " المغني" لابن قدامة (1 /52).

وعلى هذا القول؛ فإذا تنجس زيتٌ أو لبنٌ أو مرق أو سمن مائع أو دهن من سائر الأدهان، أو غير ذلك من المائعات: فلا طريق إلى تطهيرها، لأنّه لا يمكن غسلها.

والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد: أنّ حكم المائع حكم الماء.

قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَحُكْمُ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ، فِي الأْصَحِّ... فَكُل مَا لاَ يُفْسِدُ الْمَاءَ، لاَ يُفْسِدُ غَيْرَ الْمَاءِ مِنْ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ ". انتهى من "حاشية ابن عابدين" (2/41)

وهذا هو مذهب الإمام البخاري والأوزاعي والزهري. ينظر: فتح الباري (9/668).

" وهو قول طائفة من السلف والخلف ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (21 /489)

واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.

فقال: "المائعات كلها لا تنجس، إذا استحالت النجاسة فيها، ولم يبق لها فيها أثر، فإنها حينئذ من الطيبات لا من الخبائث ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (20 /518).

واستدلوا بحديث ابن عباس عن ميمونة: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ). رواه البخاري (5538).

فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء الفأرة وما حولها من السمن، وأباح لهم الانتفاع بباقي السمن، مما يدل على أنه لم ينجس بموت الفأرة فيه، ولم يستفصل منهم عن حال السمن، هل هو جامد أم مائع، مع أن الغالب في سمن الحجاز أن يكون مائعاً لشدة الحرارة في تلك البلاد، والغالب على سمنهم أن يكون قليلا لا كثيراً.

وعلى هذا القول: فتوى اللجنة الدائمة، فقد جاء في فتاويها: " اللبن وغيره من المائعات إذا وقعت فيه نجاسة، فحكمه حكم الماء، في أنه ينجس بها إذا تغير بالنجاسة لونه أو طعمه أو ريحه". انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (22 /128) (بكر بن عبد الله أبو زيد... صالح بن فوزان الفوزان... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز)

ثانياً:

في القول بنجاسة المائع بمجرد وقوع النجاسة فيه حرج شديد، فلو وقعت قطرة دم في قناطير من زيت الزيتون في أحد عصاراته: حكم بنجاسة الجميع! وفي هذا مشقة واضحة.

وكذلك: " لو كان عند إِنسان إِناء كبير فيه سمن مائع، وسقطت فيه شعرة من كلب؛ فإِنَّه يكون نجساً، لا يجوز بيعه؛ ولا شراؤه؛ ولا أكله أو شربه ". انتهى من "الشرح الممتع" لابن عثيمين (1/ 58).

" فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جدا ". انتهى من "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (21/496).

" وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة، بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم، فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفى على الناس". انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/506)

وأما حديث: (إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ)، فهي رواية ضعيفة، تفرد بروايتها بهذا اللفظ مَعْمَر بن راشد، وعامة الثقات يروونه بلفظ: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ) كما رواه البخاري في صحيحه (235).

وقد تكلم في رواية معمر وطعن فيها: البخاري، والترمذي، وأبو حاتم الرازي، والدارقطني وغيرهم، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. انظر: "مجموع الفتاوى" (21 /490)

قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ خطأ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث غير مَحْفُوظ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ وهم. انتهى من "المحرر في الحديث" صـ470.

وقال ابن القيم: " أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأ محضاً ". انتهى من "تهذيب السنن" (10/319).

وقال ابن عبد الهادي: أخرجه أبو داود وغيره، وهو حديثٌ غيرُ محفوظٍ، وقد جَمعتُ فيه جزءًا. انتهى، من "حاشية الإلمام". (1/ 369).

ومع ذلك فقد صحح كلا الروايتين: الإمام أحمد، والذُّهلي، وابن حبان، ومال إليه الحافظ ابن حجر، وحسنه النووي، ينظر: مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله: (1/17)، صحيح ابن حبان (2/335)، شرح علل الترمذي (485)، فتح الباري (1/344) خلاصة الأحكام (1/182).

وقد رجح الشيخ الألباني ضعف رواية معمر، وحكم عليها بالشذوذ، وأن الرواية الثابتة هي قوله صلى الله عليه وسلم: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ).

قال شيخ الإسلام: "ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولا، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل". انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/515).

ولكن يبقى في الاستدلال بهذه الرواية الصحيحة (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ) على حكم السمن المائع نظر، وذلك لأن الحديث – فيما يظهر - ورد في السمن الجامد لا المائع، والجامد باتفاق العلماء لا ينجس كله، وإنما تزال النجاسة وما حولها فقط، نقل الإجماع ابن عبد البر في "التمهيد" (9/40) )

ويدل على أنّ الحديث ورد في الجامد أمران:

الأول: ما جاء في رواية النسائي (4259) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ جَامِدٍ، فَقَالَ: (خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، فَأَلْقُوهُ). وصححه الألباني.

فهذه رواية صريحة تدل على أن السمن المسئول عنه كان جامداً.

لكن قال ابن عبد الهادي: "وَفِي هَذِه الزِّيَادَة نظر". انتهى من "المحرر في الحديث" صـ 469، وانظر أيضا تعليقه على هذه الزيادة، واختلاف نسخ النسائي حولها: حاشية ابن عبد الهادي على الإلمام (1/369-370). وينظر أيضا للفائدة حول إعلال هذه الزيادة: حاشية د. ماهر الفحل على "بلوغ المرام" (303)، "التبيان في تخريج بلوغ المرام"، للشلاحي (9/28-29).

الثاني: قوله في الحديث: (وَمَا حَوْلَهَا) يدل على أن السمن كان جامداً.

قال الحافظ ابن حجر: " " وَقَدْ تَمَسَّكَ اِبْن الْعَرَبِيّ بِقَوْلِهِ ( وَمَا حَوْلهَا ) عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَامِدًا، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَائِعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَوْل، لِأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ مِنْ أَيّ جَانِب منها لَخَلَفَهُ غَيْره فِي الْحَال، فَيَصِير مِمَّا حَوْلهَا، فَيُحْتَاج إِلَى إِلْقَائِهِ كُلّه... وَقَدْ وَقَعَ عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ ( فَأَمَرَ أَنْ يُقَوَّر مَا حَوْلهَا فَيُرْمَى بِهِ )، وَهَذَا أَظْهَر فِي كَوْنه جَامِدًا مِنْ قَوْله (وَمَا حَوْلهَا)، فَيَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ اِبْن الْعَرَبِيّ ". انتهى من " فتح الباري" (9/ 670).

وقال العيني: " ويُعلم من هذه الرواية أن السمن كان جامداً... لأن المائع لا حول له، إذ الكلُّ حوله ". انتهى من "عمدة القاري" (5 / 111).

وقال الباجي: " قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (انْزِعُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ) يَقْتَضِي أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَمْنٍ جَامِدٍ، وَلَوْ كَانَ ذَائِبًا لَمْ يَتَمَيَّزْ مَا حَوْلَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ جَامِدًا نَجِسَ مَا جَاوَرَهَا بِنَجَاسَتِهَا، وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الطَّهَارَةِ ". انتهى من "المنتقى شرح الموطأ" (4/418).

والاستدلال على كونه مائعاً بأن بلاد الحجاز بلاد حارة، قد يُسلَّم لو ثبت أن هذه الحادثة وقعت في الصيف، وأما مع احتمال وقوعها في الشتاء، فلا يسلَّم.

والحاصل:

أن حكم السمن الجامد لا إشكال فيه، فتُلقى النجاسة وما حولها فقط، وأما السمن المائع ففيه الخلاف، ودلالة الحديث: هل السمن كان جامدا أم مائعاَ محل احتمال وتردد.

ولعل الأقرب أن يقال في هذه المسألة: إنّ المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة ولم تغيرها، فالقول بعدم نجاستها أقرب. ووجه ذلك:

1- " أن الله أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، والأطعمة والأشربة من الأدهان والألبان والزيت والخلول والأطعمة المائعة: هي من الطيبات التي أحلها الله لنا، فإذا لم يظهر فيها صفة الخبث، لا طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، ولا شيء من أجزائه، كانت على حالها في الطيب... ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/514).

2- أنّ الأصل هو الحكم بالطهارة، وليس عندنا دليل واضح يحكم بنجاسة المائع الكثير لمجرد وقوع النجاسة فيه..

وأما إن كان المائع شيئاً قليلاً، فالخلاف فيه قوي، والأحوط تركه وإراقته.

" قَالَ حَرْبٌ: سَأَلْت أَحْمَدَ، قُلْت: كَلْبٌ وَلَغَ فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ؟

قَالَ: إذَا كَانَ فِي آنِيَةٍ كَبِيرَةٍ مِثْلِ جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ، رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَيُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ فِي آنِيَةٍ صَغِيرَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي ". انتهى من "المغني" لابن قدامة (1 /45)

وقال شيخ الإسلام: " بتقدير صحة هذا اللفظ، وهو قوله (وإن كان مائعاً فلا تقربوه)، فإنما يدل على نجاسة القليل، الذي وقعت فيه النجاسة، كالسمن المسئول عنه، فإنه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق قلتين يقع فيه فأرة... بل السمن الذي يكون عند أهل المدينة في أوعيتهم يكون في الغالب قليلا، فلو صح الحديث لم يدل إلا على نجاسة القليل.

فأما المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة، فلا يدل على نجاستها لا نص صحيح، ولا ضعيف، ولا إجماع، ولا قياس صحيح ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/495).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android