فإن اقتران صفتي الواحد والقهار لله تعالى في القرآن الكريم - كما في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) له حكمة عظيمة بيَّنها العلماء، ومن أبرز ما قيل في ذلك:
أولاً: نفي الشرك من كل وجه، وذلك أن الواحدية المطلقة تستلزم القهر، والقهر التام يستلزم الواحدية، فلا يمكن أن يكون هناك إله قاهر إلا إذا كان واحدًا، ولا يمكن أن يكون الإله واحدًا حقيقيًا إلا وكان قاهرًا لكل شيء.
وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله فقال:
"ووحدته تعالى وقهره متلازمان، فالواحد لا يكون إلا قهارا، والقهار لا يكون إلا واحدا، وذلك ينفي الشركة له من كل وجه" انتهى من "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 719).
وقال رحمه الله: "فإن القهر ملازم للوحدة، فلا يكون قهارين متساويين في قهرهما أبدا.
فالذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الذي لا نظير له، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده، كما كان قاهرا وحده" انتهى من "تفسير السعدي" (ص: 716).
وفي كتاب "ولله الأسماء الحسنى" للجليِّل (1/ 84):
"يشير هذا الاقتران إلى معنى بديع: وهو أن الغلبة والإذلال من ملوك الدنيا، إنما يكون بأعوانهم وجندهم وعُددهم، والله تعالى يقهر كل الخلق، وهو واحد أحد فرد صمد، مستغنٍ عن الظهير والمعين.
فاقتران الاسمين يشير إلى كماله سبحانه في تفرده وكماله في قهره" انتهى.
ويقول ابن القيم، وهو يقرر حكم الله جل جلاله في ابتلائه لعباده:
"هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحِكَم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراجِ صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفوسهم من القوَّة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسرِ كلِّ شيء بمقابله ومصادمته بضده، ليظهر عليه آثارُ القهر وسماتُ الضعف والعجز، ويستيقنَ العبد أنَّ القهَّار لا يكون إلا واحدًا، وأنَّه يستحيل أن يكون له شريك؛ بل القهر والوحدة متلازمان.
فالملك والقدرة والقوَّة والعزَّة كلها للَّه الواحد القهَّار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناوٍ ومشارك.
فخلقَ الرياحَ، وسلَّطَ بعضها على بعض تُصادمها، وتكسِر سَورتَها، وتذهب بها.
وخلقَ الماء، وسلَطَ عليه الرياحَ تصرّفه وتكسره. وخلق النَّار، وسلَّطَ عليها الماءَ يكسرها ويطفئها. وخلقَ الحديد، وسلَّط عليه النار تذيبه وتكسر قوته.
وخلق الحجارة، وسلَّط عليه الحديد يكسرها ويفتَتها. وخلق آدم وذريته، وسلَّطَ عليهم إبليس وذريته. وخلَق إبليس وذريته، وسلَّطَ عليهم الملائكة يشرّدونهم كلَّ مشرَّد ويطرّدونهم كلَّ مطرَّد.
وخلق الحرَّ والبرد والشتاء والصيف، وسلَّطَ كلًّا منها على الآخر يُذهِبه ويقهره. وخلقَ الليل والنهار، وقهرَ كلًّا منهما بالآخر.
وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر، لكل منه مضاد ومغالب.
فاستبان للعقول والفطَر: أنَّ القاهر الغالب لذلك كلِّه واحدٌ، وأنَّه من تمام ملكه إيجادُ العالم على هذا الوجه، وربطُ بعضه ببعض، وإحواجُ بعضه إلى بعض، وقهرُ بعضه ببعض، وابتلاءُ بعضه ببعض، وامتحانُ خيره بشرّه وجعلُ شره لغيره الفداءَ" انتهى، من "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (1/ 301-302).
ثانيًا: نفي الولد والشريك بطريقة منطقية عميقة، حيث إن حاجة الوالد إلى الولد أو الشريك ناتجة عن نقص فيه، كخوفه من الفناء أو عجزه عن القيام بأمر ما، وهذا من صفات المقهورين.
أما الإله الكامل الذي قهر كل شيء ولم يقهره شيء، فهو غني عن كل ما سواه، فلا ولد له ولا شريك.
وهذا المعنى أبرزه فخر الدين الرازي رحمه الله في تفسيره حيث قال:
"وَكَوْنُهُ قَهَّارًا: يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَدِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْوَلَدِ، هُوَ الَّذِي يَمُوتُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى وَلَدٍ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ فَالْمُحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَقْهُورًا بِالْمَوْتِ، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ قَاهِرًا، وَلَا يَقْهَرُهُ غَيْرُهُ: فَيَكُونُ الْوَلَدُ فِي حَقِّهِ مُحَالًا.
فَثَبَتَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: (هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) أَلْفَاظًا مُشْتَمِلَةً عَلَى دَلَائِلَ قَاطِعَةٍ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى". انتهى من "تفسير الرازي" (26/422).
فالاقتران بين الاسمين العظيمين (الواحد القهار) جاء ليرسخ في النفس البشرية حقيقة التوحيد الخالص، وينفي أي احتمال للشرك أو النقص في ذات الله تعالى وصفاته، فهو الواحد الذي لا شريك له، القاهر الذي لا يُغلب، الغني الذي لا يفتقر إلى ولد ولا صاحبة.
والله أعلم