أولا:
خطاب الجمادات كالأرض والسماء، والقمر والسحاب: لا يراد منه، في غالب الأحوال: الدعاء وطلب الحاجات، وإنما هو أسلوب من الأساليب الجارية في اللغة العربية وغيرها من اللغات ، والمقصود منها يعلمه السامع ويعلمه المتكلم قبله ، ولها مقاصد بلاغية ، بحسب السياق الواردة فيه .
فقد يكون النداء على سبيل "التحسر والتوجع"، كقول الشاعر يرثي معن بن زائدة:
فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيْتَ جُودَهُ ** وَقَدْ كَانَ مِنْهُ الْبَرُّ والْبَحْرُ مُتْرَعاً
وقد يوجّه النداء إلى من لم يُقصد إسماعه، كأن تقول لميّت تندبه: يا زيد ما أجلّ مصيبتنا بفقدك.
ومن ذلك: نداء الأطلال والمنازل والمطايا، كقول أبي العلاء:
يا ناقُ جِدّي فقدْ أفنَتْ أناتُكِ بي ** صَبري وعُمري وأحلاسي وأنساعي
وقول النابغة :
يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ ** أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ
جاء في كتاب "البلاغة العربية: أسسها ، وعلومها ، وفنونها" (1/241): " وقد يخرج النداء عن المعنى الأصليّ الموضوع له ، فيُسْتَعْمَلُ لدى البلغاء وغيرهم في أغراضٍ أخْرى غير النداء، وهذه الأغراضُ تُفْهَمُ من قرائن الحال أو قرائن المقال ، فكلُّ حَرَكَةٍ نفسيَّةٍ ذات مشاعِرَ ، تَدْفَعُ الإِنسان إلى التعبير عنها بنداء ما ، بطريقةٍ تلقائية ، ولو لم يشعر بأنّ هذا النداء يحقق له مرجوّاً أو مأمولاً ، أو يدفع عنه مكروها.
كأن يستعمل النداء في : الزّجْر واللّوم ، أو التحسّر والتأسّف والتّفجع والندم أو النُّدْبة ، أو الإِغراء ، أو الاستغاثة ، أو اليأس وانقطاع الرجاء ، أو التمني ، أو التذكر وبث الأحزان ، أو التضجر ، أو الاختصاص ، أو التعجب ، إلى غير ذلك" انتهى .
وينظر: جواب السؤال رقم: (237968) ففيه مزيد بيان لذلك.
ثانيا:
قول القائل: يا أرض احفظي ما عليك، لا يظهر فيه قصد إسماع الأرض ذلك، ولا حقيقة الطلب منها أن تحفظ أحدا، وإنما هو أسلوب يريد منه صاحبه التندر من شخص، أو الإعجاب به، أو تمني السلامة له ، وخطاب الأرض ليس مقصودا حقيقة.
وعلى هذا فلا حرج فيه.
فإن أراد القائل من ذلك: أن الأرض هي من تحفظ المدعو له، حقيقة: كان شركا أكبر.
وإن أراد بهذا القول أن يدفع العين، كقول بعضهم: امسك الخشب، فهذا شرك أصغر؛ لأنه جعل ما ليس سببا سببا.
سئل الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله تعالى عن سؤال الجمادات والمحسوسات على سبيل المناجاة في القصائد ونحوها ، في أمور لا يقدر عليها إلا الله، نحو قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
ونحو قولهم في الشعر النبطي:
يا قبر أعز إنسان غالي رقد فيك * خفف عليه من التراب الثقيلي
ونحوها، أتكون من دعاء غير الله ، أم تكون من المجازات أو الاستعارات فيتساهل فيها؟
فأجاب: " الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أما بعد؛ فإن ما في البيتين من النداء ليس من قبيل دعاء غير الله الذي هو شرك.
بل النداء والأمر في البيت الأول : غاية الشاعر فيه التمني بانجلاء الليل، ونداء الليل نوع من التخيل بأن الليل يسمع ويجيب، والشاعر يعلم أنه لا يسمع ولا يجيب، ولا ينجلي بإرادة منه.
وكذا خطاب القبر في البيت الثاني: فإنه محض تخيل وأمانٍ، أو تحسر على الدفين الذي لا يملك له الشاعر ولا غيره إنقاذه من مصيره، بل المالك لذلك الله وحده، الذي يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وهكذا القول في كل ما يرد في الأشعار من خطاب الجمادات؛ كالأطلال والديار والدِّمن والقبور، فكل ذلك من قبيل التمني أو التحسر.
أما خطاب أصحاب القبور الأموات، لقضاء الحاجات : فهو الشرك المحبط للحسنات .
فيجب الفرقان بين التمنيات ، والتحسرات ، ودعاء الأموات ، والله أعلم" .
أملاه: عبد الرحمن بن ناصر البراك 17/صفر/1434هـ
ولا شك أن البعد عن استعمال هذا التعبير أولى، فإن بعض الجهال قد يريد مخاطبة الأرض حقيقة بذلك وطلب الحفظ منها.
والله أعلم.