الأصل أنه يجب أن تكون النصيحة سراً، فلا يجهر بها أمام الناس إلا للمصلحة الراجحة. والنصيحة أمام الناس غلط.
وفي ديوان الشافعي:
تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي *** وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه
فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ *** مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه
وَإِن خالَفتَني وَعَصِيتَ قَولي *** فَلا تَجزَع إِذا لَم تُعطَ طاعَه
قال ابن رجب رحمه الله: " كان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ، وعظوه سراً، حتّى قال بعضهم: مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبخه.
وقال الفضيل: المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ" انتهى من "جامع العلوم والحكم" (1/236).
وقال ابن حزم رحمه الله: " إِذا نصحت فانصح سرا لَا جَهرا، وبتعريض لَا تَصْرِيح، إِلَّا أَن لَا يفهم المنصوح تعريضك، فَلَا بُد من التَّصْرِيح.... فَإِن تعديت هَذِه الْوُجُوه فَأَنت ظَالِم لَا نَاصح " انتهى من "الأخلاق والسير" (ص 45).
على أنه إذا افترض أن في الجهر بالنصح مصلحة راجحة: فلا حرج على الناصح أن يجهر بنصحه، كأن يكون منكره وغلطه ظاهرا في الناس، فيرده عليه، ظاهرا، ليحصل إنكار المنكر في الجميع، ولتتم مصلحته. كمن ينكر على من أباح الربا بتأويل باطل، أو ينشر البدعة والفجور بين الناس، فمثل هذا نصحه علانية مشروع، بل قد يكون واجبا، للمصلحة الراجحة، ودرء المفسدة الغالبة.
قال ابن رجب رحمه الله: " إن كان مقصوده مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته: فلا ريب أنه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم" انتهى من "الفرق بين النصيحة والتعيير" (ص 7).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (3/ 6) :
"وإذا كان الإنسان من طبيعته التقصير والنقص والعيب؛ فإن الواجب على المسلم نحو أخيه أن يستر عورته ولا يشيعها إلا من ضرورة. فإذا دعت الضرورة إلى ذلك فلابد منه، لكن بدون ضرورة فالأولى والأفضل أن يستر عورة أخيه؛ لأن الإنسان بشر ربما يخطئ عن شهوة ـ يعني عن إرادة سيئة ـ أو عن شبهة، حيث يشتبه عليه الحق فيقول بالباطل أو يعمل به، والمؤمن مأمور بأن يستر عورة أخيه.
هب أنك رأيت رجلاً على كذب وغش في البيع والشراء؛ فلا تفش ذلك بين الناس؛ بل أنصحه واستر عليه، فإن توفق واهتدى وترك ما هو عليه؛ كان ذلك هو المراد، وإلا وجب عليك أن تبين أمره للناس؛ لئلا يغتروا به.
وهب أنك وجدت إنساناً مبتلى بالنظر إلى النساء، ولا يغض بصره، فاستر عليه، وانصحه وبين له أن هذا سهم من سهام إبليس؛ لأن النظر - والعياذ بالله - سهم من سهام إبليس يصيب به قلب العبد، فإن كان عنده مناعة، اعتصم بالله من هذا السهم الذي ألقاه الشيطان في قلبه، وإن لم يكن عنده مناعة؛ أصابه السهم، وتدرج به إلى أن يصل إلى الفحشاء والمنكر والعياذ بالله يكون أشد عذاباً.
فما دام الستر ممكناً، ولم يكن في الكشف عن عورة أخيك مصلحة راجحة أو ضرورة ملحة، فاستر عليه ولا تفضحه" انتهى.
عند انتشار المنكر لا يلزم عند الإنكار ذكر اسم صاحب المنكر، لأن الستر عليه ربما يكون سبباً في انتفاع صاحب المنكر فيتغير حاله، وربما انتفع أتباعه كذلك.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في" شرح رياض الصالحين" (2/ 246):
"وترك ذكر اسم الشخص فيه فائدتان عظيمتان:
الفائدة الأولى: الستر على هذا الشخص.
الفائدة الثانية: أن هذا الشخص ربما تتغير حاله؛ فلا يستحق الحكم الذي يحكم عليه في الوقت الحاضر؛ لأن القلوب بيد الله، فمثلاً: هب أنني رأيت رجلاً على فسق، فإذا ذكرت اسمه، فقلت لشخص: لا تكن مثل فلان؛ يسرق أو يزني أو يشرب الخمر، أو ما أشبه ذلك، فربما تتغير حال هذا الرجل، ويستقيم، ويعبد الله، فلا يستحق الحكم الذي ذكرته من قبل، فهذا كان الإبهام في هذه الأمور أولى وأحسن، لما فيه من ستر، ولما فيه من الاحتياط إذا تغيرت حال الشخص".
انظر: إجابة رقم: (225160).
والله أعلم.