أولا:
إذا كان الرشح والبلل الخارج من الدبر مستمرا، فهذا سلس، تتوضأ له بعد دخول وقت الصلاة، في قول الجمهور. وكذا لو كان ينقطع انقطاعا غير معلوم.
وأما إن كان ينقطع وقتا معلوما، أو ينقطع زمنا كثيرا، فلا يعتبر سلسا، ويلزمك انتظار انقطاعه لتتوضأ وتصلي.
ولا حرج عليك إن كنت صاحب سلس: أن تقلد من يقول بأنه لا يلزم الوضوءُ لكل صلاة، وأنه لا ينتقض الوضوء إلا بناقض آخرَ، غيرِ ما به السلس، وهو القول الذي رجع إليه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
قال في "لقاء الباب المفتوح" (214/ 10): " إن بعض العلماء قال: سلس البول فلا ينقض الوضوء أيضاً، إذا تطهر الإنسان أول مرة، فإنه لا ينتقض وضوؤه ما لم يحدث بحدث آخر، وعلل ذلك بأنه لا يستفيد من الوضوء، إذ إن الحدث دائم، فلا فائدة من الوضوء.
نعم لو انتقض وضوؤه من ريح مثلاً، وفيه سلس بول: فهنا يجب أن يتوضأ.
وهذا القول ليس ببعيد من الصواب. وكنت بالأول أرى أنه ينقض الوضوء، وأنه لا يجوز أن يتوضأ الإنسان للصلاة إلا بعد دخول وقتها.
لكن بعد أن راجعت كلام العلماء، واختلافهم، وقوة تعليل من علل بأن هذا الوضوء لا فائدة منه، إذ إن الحدث دائم: تراجعت عن قولي الأول.
وهذا القول أرفق بالناس بلا شك، ولا سيما بالنسبة للنساء اللاتي يخرج منهن هذا السائل الدائم، ولا سيما في أيام الحج والعمرة، عندما تذهب المرأة مثلاً إلى المسجد من بعد المغرب لتصلي صلاة العشاء، إذا قلنا بانتقاض الوضوء، يعني لابد أن تبتدئ الوضوء بعد دخول الوقت، فصار في هذا مشقة عظيمة، لا سيما في أيام الزحام، شيء فيه مشقة على المسلمين، والدليل فيه ليس بواضح، وقد قال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185] وقال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] .
والظاهر أيضاً: أن الذي يصيب النساء، هو الذي يصيب النساء السابقات، ولم يبلغنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر النساء أن تتوضأ لوقت كل صلاة، غاية ما هنالك المستحاضة على خلاف في هذا؛ فإن مسلماً رحمه الله أشار إلى أن قوله: (توضئي لكل صلاة) لم يصح، ولذلك حذفها عمداً من حديثه.
المهم: الشيء المعتاد لا ينقض إلا البول والغائط فقط والريح لأنه ثبت به الحديث" انتهى.
وجاء في هامش "الشرح الممتع" (1/ 503) تعليقا على وجوب وضوء المستحاضة لوقت كل صلاة: "هذا ما كان يراه شيخنا رحمه الله سابقاً، ثم إنه رجع عن ذلك وقال: إن المستحاضة ونحوها ممن حدثه دائم: لا يجب عليه الوضوء لكل صلاة بل يستحب، فإذا توضأ فلا ينتقض وضوءه إلا بناقض آخر. وهذا مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، لعدم الدليل على النقض، ولأن من حدثه دائم لا يستفيد بالوضوء شيئاً، لأن الحدث معه دائم ومستمر. وأما رواية البخاري: (ثم توضئ لكل صلاة): فهذه الزيادة ضعفها مسلم، وأشار إلى أنه حذفها عمداً، فقال: وفي حديث حماد حرف تركناه اهـ، وضعفها أيضاً أبو داود والنسائي، وذكرا أن جميع الروايات ضعيفة لانفراد حماد بها. وقال ابن رجب: إن الأحاديث بالأمر بالوضوء لكل صلاة مضطربة ومعللة اهـ. وأما رطوبة فرج المرأة فالقول بوجوب الوضوء منها أضعف من القول بوجوبه في الاستحاضة، لأن الاستحاضة ورد فيها حديث، بخلاف رطوبة فرج المرأة مع كثرة ذلك من النساء والله أعلم. انظر: "الاختيارات" ص (15)، "فتح الباري" لابن رجب (2/ 69 ـ 75)" انتهى.
ثانيًا:
صاحب السلس يلزمه عصب المحل بشيء يمنع الخارج، فإن فعل ذلك لم يلزمه تجديد العصابة، وإن فرط في الشد لزمه تجديدها عند دخول الوقت.
قال في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 120): " يلزم كل من دام حدثه من مستحاضة , ومن به سلس بول , أو مذي , أو ريح , أو جرح لا يرقأ دمه , أو رعاف (غسلُ المحل) الملوث بالحدث , لإزالته عنه (وتعصيبه) أي فعل ما يمنع الخارج حسب الإمكان، من حشو بقطن , وشدّه بخرقة طاهرة ...
و(لا) يلزمه (إعادتهما) أي الغسل والعصب (لكل صلاة إن لم يفرّط) , لأن الحدث مع غلبته وقوته لا يمكن التحرز منه ... (ويتوضأ) من حدث دائم (لوقت كل صلاة إن خرج شيء) " انتهى مختصرا.
وإذا سقطت الفوطة، وأصاب سروالك أو قميصك شيء من الخارج، وجب تطهيره أو الصلاة في غيره .
والظاهر أن الفوطة التي تضعها لا يتحقق بها العصب، فإنها لا تحكم المكان، ولا تمنع الخارج منه جيدا، ويسهل سقوطها، عند المشي أو الحركة. وإنما الذي ينفع في ذلك: هو حفاظات المرضى، وكبار السن، فمنها أشياء يمكن إحكامها على مكان الخارج، وهي بكل حال: أثبت وأمكن في منع الخارج.
وينظر جواب السؤال رقم: (279406).
على أن بعض أهل العلم لا يرى وجوب العصب وشد الخرقة.
قال الحطاب المالكي رحمه الله: " واستحب في المدونة أن يدرأ ذلك بخرقة.
قال سند: ولا يجب ; لأنه يصلي بالخرقة، وفيها النجاسة، كما يصلي بثوبه.
قال سند: هل يستحب تبديل الخرقة؟ قال الإبياني: يستحب له ذلك عند الصلاة ويغسلها، وعلى قول سحنون: لا يستحب، وغسل الفرج أهون عليه من ذلك " انتهى من "مواهب الجليل" (1/ 143).
وعلى هذا القول؛ فإذا أردت التبول واحتجت إلى الجلوس فلا يلزمك غسل الدبر ولا تغيير الفوطة؛ لا سيما إذا كنت في خارج المنزل، وكان يشق عليك ذلك.
ثالثًا:
لا حرج في مسحك على الخفين أو الجوربين، فإن المسح عليهما جائز لأصحاب الأعذار، كصاحب السلس وغيره؛ بشرط أن يلبسهما على وضوء كامل.
قال ابن قدامة رحمه الله: " وإن تطهرت المستحاضة ، ومن به سلس البول، وشبههما، ولبسوا خفافاً ، فلهم المسح عليها. نص عليه أحمد; لأن طهارتهم كاملة في حقهم. قال ابن عقيل: لأنها مضطرة إلى الترخص، وأحق من يترخص المضطر.." انتهى من "المغني.(1/174) "
وينظر جواب السؤال رقم: (162395).
رابعا:
تصح إمامة صاحب السلس لغيره من الأصحاء في مذهب المالكية والشافعية.
قال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع" (4/172-173): " وصلاتُه – يعني المصاب بالسلس - مأموماً بإمامٍ سليمٍ مِن هذا المرضِ صحيحةٌ ، وصلاتُه إماماً بمصابٍ بهذا المرضِ صحيحةٌ ، هاتان صورتان .
الصورةُ الثالثةُ : صلاتُه إماماً بمَن هو سليمٌ مِن هذا المرضِ فقال بعض العلماء : إنَّها لا تصحُّ ، فإذا صَلَّى مَنْ به سلسُ البولِ إماماً بمَن هو سالمٌ مِن هذا المرضِ ، فصلاةُ المأمومِ باطلةٌ وصلاةُ هذا أيضاً باطلةٌ ؛ لأنَّه نَوى الإِمامةَ بمَن لا يصحُّ ائتمامُه به إلا أنْ يكون جاهلاً بحاله .
والعلَّةُ في عدمِ صحَّةِ إمامتِه : أنَّ حالَ مَن به سَلسُ البولِ دون حالِ مَن سَلِمَ منه ، ولا يمكن أن يكون المأمومُ أعلى حالاً مِن الإِمامِ .
والقول الصحيحُ في هذا : أن إمامةَ مَن به سَلَسُ البولِ صحيحةٌ بمثْلِهِ وبصحيحٍ سليمٍ .
ودليلُ ذلك : عمومُ قولِه صلى الله عليه وسلم : ( يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ ) وهذا الرَّجلُ صلاتُه صحيحةٌ ؛ لأنَّه فَعَلَ ما يجب عليه ، وإذا كانت صلاتُه صحيحةٌ لزمَ مِن ذلك صحَّةُ إمامتِه .
وقولهم : إنَّ المأمومَ لا يكون أعلى حالاً مِن الإِمام مُنتقضٌ بصحَّةِ صلاةِ المتوضئِ خلفَ المُتَيمِّمِ ، وهم يقولون بذلك مع أنَّ المتوضئَ أعلى حالاً ، لكن قالوا : إنَّ المتيمِّمَ طهارتُه صحيحةٌ . ونقول : ومَن به سَلَسُ البولِ طهارتُه أيضاً صحيحةٌ " انتهى .
وينظر: جواب السؤال رقم: (60375).
ونسأل الله تعالى أن يشفيك ويعافيك ويذهب همك، ونوصيك بكثرة الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد (21242) والترمذي (2457) واللفظ له عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ)، قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: مَا شِئْتَ. قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ.
ولفظ أحمد: عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: (إِذَنْ يَكْفِيَكَ اللهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ).
والحديث حسنه الألباني ومحققو المسند.
والله أعلم.