الخميس 16 شوّال 1445 - 25 ابريل 2024
العربية

اختلاف الأحاديث في كيفية ضرب شارب الخمر

395499

تاريخ النشر : 01-03-2023

المشاهدات : 2195

السؤال

هذا الحديث يقول: " أُتِيَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ برَجُلٍ قدْ شَرِبَ، قَالَ: (اضْرِبُوهُ) -قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بيَدِهِ، والضَّارِبُ بنَعْلِهِ، والضَّارِبُ بثَوْبِهِ- فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أخْزَاكَ اللَّهُ! قَالَ: (لا تَقُولوا هَكَذَا؛ لا تُعِينُوا عليه الشَّيْطَانَ)، فلماذا قاموا بضربة بهذه الطريقة، وهناك حديث يقول: (من شرِبَ فاجلِدوه، فإن شَرِبَ فاجلِدوه، فإن شَرِبَ فاجلِدوه، فإن شرِبَ الرَّابعةَ فاقتلوه)؟

الجواب

الحمد لله.

من الثابت أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي؛ قد تم صدقا وعدلا، فلا تختلف أقواله؛ فإن ظهر من ظاهر ألفاظ بعض الأحاديث الصحيحة نوع اختلاف؛ فالواجب علينا أن نجتهد لنطلع على المعنى الصحيح الذي يحصل به ائتلاف هذه الأحاديث وعدم اختلافها.

وهذه الأحاديث في عقوبة شارب الخمر، قد صحت أسانيدها؛ والجمع بينها على أحد وجهين:

الوجه الأول:

أن حد الخمر شرع بالتدرج، كحال تحريم شربها، فكان بدايةً يضرب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ضربا مطلقا، غير محدد بآلة ولا بعدد، وإنما على وجه التعزير.

ويمكن على هذا يحمل حديث البخاري (6777) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: (اضْرِبُوهُ)، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: (لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ).

ثم شرعت بعد ذلك عقوبة الجلد، أربعين جلدة، كما روى مسلم (1706) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ".

قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى:

" وأما الضرب بالجريد والنعال: فإنه كان في أول الإسلام على وجه التأنيب والتوبيخ، ثم استقرت الحدود بالسياط " انتهى من "الإفصاح" (5/187).

فيكون حديث أبي هريرة قبل أن يشرع الحد على وجه محدد، ثم شرع الضرب بالأربعين، والقتل في الرابعة، ثم نسخ القتل وبقي الحد والعقوبة بالجلد.

روى أبو داود (4482)، والترمذي (1444)، وغيرهما: عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ).

قَالَ الترمذي عقبه:

" وَفِي البَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالشَّرِيدِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ أَوْسٍ، وَجَرِيرٍ، وَأَبِي الرَّمَدِ البَلَوِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.

حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ هَكَذَا رَوَى الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا، أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، هَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ، قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ )، وَكَذَلِكَ رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا قَالَ: فَرُفِعَ القَتْلُ، وَكَانَتْ رُخْصَةً.

وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ العِلْمِ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافًا فِي ذَلِكَ فِي القَدِيمِ وَالحَدِيثِ. وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: ( لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ )" انتهى.

قال ابن حجر رحمه الله تعالى:

" وجمع القرطبي بين الأخبار: بأنه لم يكن أولا في شرب الخمر حد. وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شُرع فيه التعزير، على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد، ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحا، مع اعتقادهم أن فيه الحد المعيّن، ومن ثم توخى أبو بكر ما فُعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر عليه الأمر، ثم رأى عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين، إما حدا بطريق الاستنباط، وإما تعزيرا.

قلت: وبقي ما ورد في الحديث: أنه إن شرب فحد ثلاث مرات، ثم شرب: قتل في الرابعة. وفي رواية: في الخامسة. وهو حديث مخرج في السنن من عدة طرق أسانيدها قوية، ونقل الترمذي الإجماع على ترك القتل...

قلت: بل دليل النسخ منصوص. وهو ما أخرجه أبو داود من طريق الزهري عن قبيصة في هذه القصة" انتهى من "فتح الباري" (12/ 72-73).

الوجه الثاني:

أن الجلد وإن كان عقوبة حدية مقدرة بأربعين جلدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن آلة الضرب كانت مطلقة غير مقيدة بالسياط ونحوه.

عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ أَرْبَعِينَ" رواه مسلم (1706).

فالقصد بالجلد حصول الألم بالضرب، بأي آلة كانت.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

"كانت إقامة الحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة بالأيدي، وتارة بالجريد، وتارة بالثياب، وكان المقصود الإيلام بالضرب" انتهى من "كشف المشكل" (3/523).

وإنما اعتُمد السوط بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، اجتهادا من الصحابة، لما رأوه من مصلحة بسبب تغير حال الناس.

روى عبد الرزاق في "المصنف" (7/377) عن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ - وهو من كبار التابعين -، قال: ( كَانَ الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ يَضْرِبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَنِعَالِهِمْ وَيَصُكُّونَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَبَعْضِ إِمَارَةِ عُمَرَ، ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يغْتَالَ الرَّجُلُ فَجَعَلَهُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يَتَنَاهَوْنَ، جَعَلَهُ سِتِّينَ، فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يَتَنَاهَوْنَ جَعَلَهُ ثَمَانِينَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا أَدْنَى الْحُدُودِ ).

وصحح اسناده الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، في "فتح الباري" (12/67).

ولهذا يرى جمع من أهل العلم أن آلة الحد في الخمر السنة فيها أن تكون كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أربعين ضربة بأطراف الثياب والنعال والأيدي.

قال العمراني الشافعي رحمه الله تعالى:

" وبم يُضرب المحدود في الخمر؟ فيه وجهان:

أحدهما - وهو قول أكثر أصحابنا - أنه يضرب بالنعال والأيدي وأطراف الثياب؛ لما روى عبد الرحمن بن أزهر: ( أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بشارب فقال: "اضربوه" فضربوه بالنعال والأيدي وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب ). وروى أنس: " أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب، فأمر عشرين رجلا، فضربه كل واحد منهم ضربتين بالجريد والنعال"، ولأن حد الخمر لما كان أخف من غيره في العدد، فوجب أن يكون أخف من غيره في الصفة ..." انتهى من"البيان" (12/527).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب