الجمعة 17 شوّال 1445 - 26 ابريل 2024
العربية

هل كان العرب أهل فترة؟ ومعنى قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا )

366299

تاريخ النشر : 05-02-2022

المشاهدات : 6727

السؤال

اشتبه علي معنى الآية الكريمة: (وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا)، قرأت في التفاسير أن الله منَّ على المسلمين إذ كانوا على وشك الدخول في النار فأتى الإسلام وأنقذهم منها، وسؤالي : لو لم يأت الإسلام على أهل مكة ألا يعتبرون من أهل الفترة الذين حكمهم معروف في الإسلام، فأين تكون المنة بالضبط؟ وأتوب إلى ربي إن كان هناك وقاحة في سؤالي، وما هدف سؤالي إلا لفهم الآية.

الجواب

الحمد لله.

قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ آل عمران/103.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (2/ 90): " قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

وَهَذَا السِّيَاقُ فِي شَأْنِ الأوْس والخَزْرَج، فَإِنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُروبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَدَاوَةٌ شَدِيدَةٌ وَضَغَائِنُ وإحَنٌ، وذُحُول طَالَ بِسَبَبِهَا قِتَالُهُمْ وَالْوَقَائِعُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَدَخَلَ فِيهِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ، صَارُوا إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ بِجَلَالِ اللَّهِ، مُتَوَاصِلِينَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (5) [الْأَنْفَالِ:62]، وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرة مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَأَبْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْهَا: أنْ هَدَاهُم لِلْإِيمَانِ. وَقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قَسَم غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَعتَبَ مَنْ عَتَبَ مِنْهُمْ لَمَّا فَضَّل عَلَيْهِمْ فِي القِسْمَة بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ.

وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسار وَغَيْرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَسَاءَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاتِّفَاقِ والألْفَة، فَبَعَثَ رَجُلًا مَعَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِهِمْ يَوْمَ بُعَاث وَتِلْكَ الْحُرُوبِ، فَفَعَلَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دأبَه حَتَّى حَمِيَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ، وَغَضِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَثَاوَرُوا، وَنَادَوْا بِشِعَارِهِمْ وَطَلَبُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَتَوَاعَدُوا إِلَى الْحَرَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يُسكِّنهم وَيَقُولُ: "أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟ "، وَتَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَاصْطَلَحُوا وَتَعَانَقُوا، وَأَلْقَوُا السِّلَاحَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ" انتهى.

وقال السعدي في تفسيره، ص141: " وكنتم على شفا حفرة من النار أي: قد استحقيتم النار، ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها فأنقذكم منها بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم" انتهى.

والعرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم بقايا من دين إبراهيم عليه السلام وشريعته كالحج وغيره، وكان فيهم بعض الموحدين الذي يعلنون التوحيد، كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، وغيرهما، فلم يكونوا من أهل الفترة الذين لا علم لهم بالرسل والرسالات.

روى مسلم (203) عنْ أَنَسٍ: " أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ.

وروى مسلم (976) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي .

قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (3/79): " قوله (أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي قال في النار فلما قفى دعاه فقال إن أبي وأباك في النار) :

فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين .

وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار. وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم .

وقوله صلى الله عليه وسلم : (إن أبي وأباك في النار): هو من حسن العشرة للتسلية بالاشتراك في المصيبة .

ومعنى : (قفَّى) ولى قفاه منصرفا" انتهى.

وقال ابن القيم في "زاد المعاد"(3/599): " وقوله (حيثما مررت بقبر كافر فقل أرسلني إليك محمد) : هذا إرسال تقريع وتوبيخ، لا تبليغ أمر ونهي.

وفيه دليل على سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم.

ودليل على أن من مات مشركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحُه والوعيدُ عليه بالنار، لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته، المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل . والله أعلم" انتهى.

وقال ابن كثير في ترجمة زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله: " وقال البخاري في صحيحه: ذكر زيد بن عمرو بن نفيل حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه وإن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض، ثم يذبحونها على غير اسم الله إنكارا لذلك، وإعظاما له...

فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويسجد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم إسناده جيد حسن...

وقال محمد بن إسحاق: حدثني هشام بن عروة قال: روى أبي أن زيد بن عمرو قال:

أربا واحدا أم ألف رب          أَدِينُ إذا تقَسَّمت الأمورُ

عزلتُ اللات والعزى جميعا     كذلك يفعل الجَلْدُ الصبورُ

فلا العُزى أدين ولا ابنتيها       ولا صنمَيْ بني عمرو أزورُ

ولا هُبَلا أدينُ وكان ربا         لنا في الدهر إذ حلمي يسير" .

انتهى، من "البداية والنهاية" (3/ 324-328).

والحاصل:

أن العرب قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أهل فترة، بل كانوا على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام وشريعته، فمن مات منهم على الشرك لم يكن معذورا، ولهذا امتن الله على الأنصار وغيرهم بأن أنقذهم من النار ببعثة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إليهم.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب