أولا:
دلت السنة على أنه إذا أرادت الجماعة الصلاة، فلا ينبغي لأحد أن يتقدم على صاحب السلطان في سلطانه؛ فإذا كان الإمام الراتب في مسجده، أو الرجل في بيته، أو من كان، في سلطانه: فلا يشرع لأحد أن يتقدمهم في الإمامة، وإن كان ذلك المتقدم أفضل أو أقرأ من الإمام الراتب، أو صاحب السلطان؛ فكيف لو كان دونه في ذلك؟!
فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) رواه مسلم (673).
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" وقد يتأول أيضا قوله: ( ولا في سلطانه ) على معنى ما يتسلط عليه الرجل من ملكه في بيته، أو يكون إمام مسجده في قومه وقبيلته " انتهى. "معالم السنن" (1 / 168).
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" وقوله: " ولا تَؤمنَّ الرجلَ في سلطانه ": أي في المكان الذي ينفرد فيه بالأمر والنهي " انتهى. "كشف المشكل" (2 / 208).
ثانيا:
إذا تأخر ذو السلطان، أو الإمام الراتب، عن وقت الصلاة، وأرادت الجماعة الصلاة، فقدموا أحدهم، ثم حضر الإمام الراتب أو ذو السلطان، وقد قاموا للصلاة ولم شرعوا فيها بعد؛ فالحال كما هي، ولا يغير قيامهم للصلاة شيئا للحكم؛ بل ذو السلطان، والإمام الراتب أحق بالإمامة ممن أقيمت له الصلاة.
وأما ما رواه ابن ماجه في سننه (4077) من حديث أمامة، مطولا، في قصة المهدي، وخروج الدجال، وفيه: ( فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ، فَرَجَعَ ذَلِكَ الْإِمَامُ يَنْكُصُ، يَمْشِي الْقَهْقَرَى، لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ ).
فهذا السياق ضعيف، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه، ولبعضه شواهد من أحاديث أخر». «تفسير ابن كثير - ط ابن الجوزي» (3/ 266).
وقال الشيخ الألباني، رحمه الله: "ضعيف".
وقد ورد هذا الموضع من القصة في "صحيح مسلم" (156)، وفيه: "فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ".
ثالثا:
إذا تأخر الإمام الراتب عن عادته، وعما اصطلح عليه أهل المسجد، وشق عليهم انتظاره، فقدموا بعضهم للإمامتهم، ثم حضر الإمام أثناء صلاتهم؛ فهل يكمل الإمام المتقدم الصلاة بهم، أم يتأخر، ويتقدم الإمام الراتب؟
وقعت هذه القصة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ المُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ التَفَتَ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ. فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى ) رواه البخاري (684) ومسلم (421).
فاختلف العلماء في حكم ذلك على قولين. قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ومنها - وهو الذي قصده البخاري بتبويبه هاهنا -: أن من أحرم بالصلاة إماماً، في مسجد له إمام راتب، ثم حضر إمامه الراتب، فهل له أن يؤخر الذي أحرم بالناس إماما، ويصير مأموما، ويصير الإمام الإمام الراتب، أم لا؟ ...
في ذلك قولان:
أحدهما: أنه لا يجوز ذلك، بل هو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
وحكاه ابن عبد البر إجماعا من العلماء، وحكاه بعض أصحابنا عن أكثر العلماء.
والثاني: أنه يجوز ذلك، وتبويب البخاري يدل عليه، وهو قول الشافعي، وأحد الوجهين لأصحابنا، وقول ابن القاسم من المالكية " انتهى. "فتح الباري" (6 / 127).
وهذا القول الثاني، أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"، فقد سئلت:
" حضر في مسجدٍ جماعة مسافرون وغير مسافرين وامتلأ المسجد من المسلمين في وقت صلاة العصر، وقال الذين في المسجد: من يصلي بالحاضرين في المسجد؟ فصلى بهم واحد، ولما كبر تكبيرة الإحرام وقرأ الفاتحة حضر الإمام الراتب الرسمي وأخر الإمام وتقدم وصلى بالناس، وحصل خلل في الصفوف فأفتونا في ذلك؟
والجواب: الأصل ألا يصلي أحد إماما بالناس في مسجد له إمام راتب إلا بإذنه؛ لأنه بمنزلة صاحب البيت، وهو أحق بالإمامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) رواه مسلم.
فإن تأخر عن وقته المعتاد حضوره فيه: جاز أن يتقدم غيره للصلاة بالناس دفعا للحرج، فإذا حضر الإمام الراتب فله أن يتقدم للإمامة، وله أن يصلي مأموما.
وعلى هذا فما فعله الإمام في المسألة المذكورة من حقه، وصلاتكم صحيحة إن شاء الله، وقد تأخر النبي صلى الله عليه وسلم مرة في السفر حين ذهب ليقضي حاجته فجاء صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن عوف يصلي بالناس، فأراد عبد الرحمن أن يتأخر فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن يستمر وصلى مأموما وراء عبد الرحمن.
وتأخر مرة أخرى في المدينة ليصلح بين بني عمرو بن عوف ثم جاء وأبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، فلما أحس به أبو بكر رضي الله عنه تأخر إلى الصف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم إماما.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن قعود ، عبد الله بن غديان ، عبد الرزاق عفيفي ، عبد العزيز بن عبد الله بن باز " انتهى. "فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى" (7 / 412 - 413).
والذي يظهر: أنه لا ينبغي للإمام أن يفعل ذلك، وما دام هو قد تأخر عن وقته المعتاد تأخرا يشق على الناس انتظاره، وصلى بهم من تصح صلاته: فلا ينبغي للإمام الراتب أن ينازعه هذه الصلاة، ولا أن يخرجه من إمامته، لأنه تقدم لها على وجه مشروع، مأذون فيه.
ولا يخفى ما يترتب على تقدم الإمام من الخلف، وشق الصفوف، أو تفريقه بين المصلين، ثم رده للإمام المستخلف، وتقدمه مكانه: لا يخفى ما في ذلك كله من تشويش، وما يوقعه في القلوب والنفوس.
فما لم تكن هناك داعية أخرى لتقدمه، كأن يكون المقدم أميا، أو نحو ذلك، مما يتعلق بنفس الصلاة: فلا ينبغي أن يفعل؛ خروجا من خلاف من منع ذلك من أهل العلم، ومنعا لإيغار الصدور، وإيحاش النفوس، ودفعا للرعونة والتصلب عن نفس الإمام المستخلف.
قال البهوتي: " (والأَوْلى) للإمام (تركه) ذلك ، ويدع الخليفة يتم بهم الصلاة، خروجا من الخلاف" انتهى.
والخلاف الذي ذكره: هو خلاف أكثر أهل العلم؛ حتى حكي إجماعا.
قال ابن عبد البر، في بيان ما في قصة إمام أبي بكر، المتقدم ذكرها، من الفقه:
«وقد كان لأبي بكر أن يتمادى لولا موضع فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز التقدم بين يديه بغير إذنه صلى الله عليه وسلم.
وقد كان يجوز له أن يثبت، ويتمادى؛ لإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، وليس كذلك المحدث؛ ولهذا يستخلف عند جمهور العلماء ...
وأما استئخار أبي بكر عن إمامته، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكانه، وصلاته في موضع أبي بكر ما كان بقي عليه: فهذا موضع خصوص عند جمهور العلماء، لا أعلم بينهم خلافا: أن إمامين في صلاة واحدة من غير عذر حدث يقطع صلاة الإمام، ويوجب الاستخلاف - لا يجوز.
وفي إجماعهم على هذا دليل على خصوص هذا الموضع؛ لفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه لا نظير له في ذلك، ولأن الله عز وجل قد أمرهم أن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، وهذا على عمومه؛ في الصلاة والفتوى والأمور كلها، ألا ترى إلى قول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفضيلة الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجهلها مسلم، ولا يلحقها أحد. وأما سائر الناس فلا ضرورة بهم إلى ذلك، لأن الأول والثاني سواء، ما لم يكن عذر.
ولو صلى أبو بكر بهم تمام الصلاة لجاز؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ ".
وفي هذا دليل على أنه لولا أنه أمره، ما قال له: "ما منعك أن تثبت؟ ". وفي هذا ما يدلك على أنهم قد كانوا عرفوا منه ما يدل على خصوصه في ذلك، والله أعلم.
وموضع الخصوص من هذا الحديث هو استئخار الإمام لغيره من غير حدث يقطع عليه صلاته، وأما لو تأخر بعد حدث وقدم غيره لم يكن بذلك بأس، بل في هذا الحديث دليل عليه؛ للعلة التي ذكرنا، فكذلك كل علة تمنع من تماديه في صلاته». انتهى، من «التمهيد» (13/ 261 ت بشار).
لكن إذا افتُئت عليه ، وتعجل المصلون في إقامة الصلاة قبل حضوره، ولم يكن انتظاره مما يشق على المصلين؛ فلا بأس إن فعل الإمام ذلك، وتقدم للإمامة؛ بشرط ألا يترتب على ذلك تشويش زائد على المصلين، أو فساد لصلاتهم، أو فتنة تقع بينهم، لا سيما وأكثر الناس يجهلون أن ذلك مما يجوز للإمام الراتب فعله.
ولمزيد الفائدة يحسن مطالعة جواب السؤال رقم: (337725).
والله أعلم.