أولا:
الأصل في لعاب الهرة أنه طاهر .
عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ لِتَشْرَبَ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ.
قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟
قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ.
فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ - أَوِ الطَّوَّافَاتِ - ) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1 / 22)، والترمذي (92 ) وغيرهما، وقال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: مِثْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ: لَمْ يَرَوْا بِسُؤْرِ الهِرَّةِ بَأْسًا، وَهَذَا أَحَسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا البَابِ " انتهى.
فالحديث علل طهارة الهرة بالتيسير ورفع المشقة، لكونها تكثر مخالطة الناس ويشق التحرز منها.
فعلى هذا فريقها طاهر سواء أكلت طاهرا أم نجسا ، خاصة إذا طال الزمن بين أكلها للنجاسة وبين لعقها، إلا إذا شوهد في فمها أثر النجاسة.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" إذا أكلت الهرة نجاسة، ثم شربت من ماء يسير بعد أن غابت، فالماء طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى عنها النجاسة، وتوضأ بفضلها، مع علمه بأكلها النجاسات.
وإن شربت قبل أن تغيب، فقال القاضي، وابن عقيل: ينجس؛ لأنه وردت عليه نجاسة متيقنة، أشبه ما لو أصابه بول.
وقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر مذهب أصحابنا أنه طاهر، وإن لم تَغِب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عفى عنها مطلقا، وعلل بعدم إمكان الاحتراز عنها؛ ولأننا حكمنا بطهارة سؤرها مع الغيبة في مكان لا يحتمل ورودها على ماء كثير يطهر فاها، ولو احتمل ذلك، فهو شك لا يزيل يقين النجاسة، فوجب إحالة الطهارة على العفو عنها، وهو شامل لما قبل الغيبة " انتهى. "المغني" (1 / 72).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وأما الهرة فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ والطَّوَّافَاتِ ).
وتنازع العلماء فيما إذا أكلت فأرة ونحوها ثم ولغت في ماء قليل؛ على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره:
قيل: إن الماء طاهر مطلقا. وقيل: نجس مطلقا حتى تُعلم طهارة فمها. وقيل: إن غابت غيبة يمكن فيها ورودها على ما يطهر فمها كان طاهرا، وإلا فلا. وهذه الأوجه في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. وقيل: إن طال الفصل كان طاهرا، جعلا لريقها مطهرا لفمها لأجل الحاجة، وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد، وهو أقوى الأقوال. والله أعلم. " انتهى. "مجموع الفتاوى" (21 / 42 - 43).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" لا فرق بين أن تكون هذه الهرة أكلت شيئا نجسا أو لم تأكل، لماذا؟
لإطلاق الحديث، فلا يقال مثلا: لو رآها تأكل فأرة، ثم شربت من الماء: صار الماء نجسا.
نقول: الحديث عام أنها ليست بنجس، سواء أكلت ما هو نجس عن قرب أو عن بعد، نعم لو رأيت أثر الدم في شفتيها في هذا الماء يكون نجسا، إذا لم تر شيئا فهي طاهرة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن المشقة تجلب التيسير، وجهه: أن الله تعالى رفع النجاسة عنها لمشقة التحرز منها، حيث إنها من الطوافين، ولو كانت نجسة وهي في البيت تشرب من الإناء، تشرب من اللبن، تأكل من الطعام لكان في ذلك مشقة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النجاسات التي يشق التحرز منها معفو عنها، وذكر العلماء من ذلك يسير الدم النجس غير الخارج من السبيلين يعفى عنه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: جميع النجاسات يعفى عن يسيرها مع مشقة التحرز منها، وما قاله رحمه الله على القاعدة" " انتهى. "فتح ذي الجلال والإكرام" (1 / 95).
ثم إن مجرد لعقها لشعرها بلسانها، لا يقطع بوصول اللعاب إلى جميع شعرها، فما تراه على لباسك من شعر لا يقطع بنجاسته، بل هو مشكوك فيه، والأصل الطهارة ولا تزول بمجرد الشك.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ؟
فَقَالَ: ( لاَ يَنْفَتِلْ - أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ - حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا ) رواه البخاري (137)، ومسلم (361).
قال النووي رحمه الله تعالى:
" وقوله صلى الله عليه وسلم: ( حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا ) معناه يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين.
وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (4 / 49).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" مع الشك فالأصل في ذلك الطهارة، والاحتياط في ذلك وسواس؛ فإن الرجل إذا أصابه ما يجوز أن يكون طاهرا ويجوز أن يكون نجسا، لم يستحب له التجنب على الصحيح، ولا الاحتياط؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر هو وصاحب له بميزاب فقطر على صاحبه منه ماء. فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: ( يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه ) " انتهى. "مجموع الفتاوى" (21 / 521).
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (5 / 365):
" الأصل في الأشياء الطهارة: فلا يحكم على شيء أو محل بأنه نجس إلا بدليل يدل على أن هذا الشيء نجس، وأن هذه النجاسة المنصوص عليها موجودة في هذا المحل، وإذا لم يتحقق هذان الأمران فإن المسلم يصلي وتكون صلاته صحيحة.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن غديان ، عبد العزيز بن عبد الله بن باز " انتهى.
وعلى فرض نجاسة بعض الشعرات: فهي نجاسة يسيرة يشق التحرز منها، والشرع جاء برفع الحرج، وعلى هذا جمع من أهل العلم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" وللعلماء رحمهم الله تعالى في مسألة يسير النجاسة أقوال:...
القول الثالث: أنه يعفى عن يسير سائر النجاسات.
وهذا مذهب أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا سيما ما يبتلى به الناس كثيرا، كبعر الفأر، وروثه، وما أشبه ذلك، فإن المشقة في مراعاته، والتطهر منه حاصلة، والله تعالى يقول: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) " انتهى. "الشرح الممتع" (1 / 466).
ثانيا:
إعطاء الأكل النجس للقطة قد يورث عندك وسوسة، فلذا يحسن أن تجنبها الأكل النجس، مع التنبه أن هذا الأكل النجس إذا كان مما يشترى، فلا يصح ذلك، لأنه لا يجوز شراء النجاسات.
وطالع للأهمية جواب السؤال رقم: (102537).
والله أعلم.