السبت 11 شوّال 1445 - 20 ابريل 2024
العربية

لا تنجب ويؤذيها أخوها ويتهمها بحسده على نعمة الولد فكيف تتصرف معه؟

327862

تاريخ النشر : 28-10-2022

المشاهدات : 1987

السؤال

متزوجة منذ أكثر من 20 عاما، ولم أرزق بأطفال، حمدت الله تعالى على ما ابتلاني به، وكنت أتعامل مع مصيبتي على أنها آية من آيات الله، فهو سبحانه القائل في كتابه العزيز:(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)) سورة الشورى. أخي الأكبر يظن بي دائما ظن السوء، أنني أحسده على ما رزقه الله من أبناء، يؤذيني باللفظ الجارح، ولا يعلم ما لأثر كلماته من طعن السهام بقلبي، فأنا أحبه، وأحب أبناءه كثيرا، وأرى فيهم العوض والسلوى، كما إنني غير معروف عني بالمرة أني حاسدة أو حاقدة، أتمنى له الخير، وللجميع، وعندما أرى النعمة على أحد أتذكر قول الحق سبحانه :( وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا) سورة الكهف، أقول له ذلك مرارا وتكرارا، ولكن هيهات أن يكون له أذن تسمع أو قلب يلين؟ فما الحكم في هذا الأخ الذي يؤذيني دوما بكلماته؟ كيف أتعامل وأتعايش معه وأنا في نظره متهمة، وعلي دائما أن أثبت له أنني على عكس ما يظن بي؟ أحيانا أشفق عليه؛ فلست الوحيدة المتهمة في نظره؛ فلديه فوبيا من الحسد، ويظن أن ما عنده ليس عند أحد غيره، وأن الجميع يحسدونه على ما فيه من نعم، هو الآن ينتظر ولادة حفيده الأول، والذي أعتبره والله حفيدي أنا، وأنسج له مشغولات يدوية ببكاء لا ينضب ودموع لا تجف على، أسأل الله صبرا وجبرا، أفيدوني ولو بكلمة تطيب خاطري؛ فقد انكسر قلبي من أقرب الأقربين.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

نسأل الله تعالى أن ينعم عليك بالرضى، وأن يرزقك من واسع جوده وفضله.

والولد كما ذكرت، يعطيه الله لمن يشاء، ويمنعه عمن يشاء ، وفي كل من عطائه ومنعه الخير، فهو الحكيم العليم البر الرحيم، قال سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ الحجر/21

وقال عز وجل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ الشورى/49، 50.

فسلي الله تعالى أن يرزقك من فضله ولا تيئسي، وتدرعي بالصبر والرضى في جميع الأحوال.

ثانيا:

الابتلاء بأذى القريب وسوء ظنه: هو من جملة الابتلاءات التي يقابلها المؤمن بالصبر والاحتساب وعدم التسخط، كما روى الترمذي أيضا (2396)، وابن ماجه (4031) عَنْ أنس رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".

فاصبري واحتسبي، ولا تبالي كثيرا بظنه ولا تعليقه، ولا تهتمي بتبرئة نفسك، فحسبك أن قلبك سليم مما يظن وأن الله يعلم ذلك.

ونوصيك بأمر عظيم وهو المضي في الإحسان إليه وإلى أولاده وأحفاده، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وإنك منصورة ما دمت تحسنين إليه ويسيء إليك، ولعله أن يفيق ويحمله إحسانك على ترك الإساءة، كما قال الله عز وجل : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فصلت/34-36.

قال ابن كثير رحمه الله : " أَيْ : فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أَيْ: مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ، بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ: ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) وَهُوَ الصَّدِيقُ ، أَيْ : إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ ، قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ، إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ ، وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ حَمِيمٌ ـ أَيْ : قَرِيبٌ إِلَيْكَ ـ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ.

ثُمَّ قَالَ: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا ) أَيْ : وَمَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ ، ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) أَيْ : ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى .

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ ، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ .

وَقَوْلُهُ: ( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) أَيْ : إِنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ رُبَّمَا يَنْخَدِعُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ ، فَأَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِيهِ إِذَا وَسْوَسَ، إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِخَالِقِهِ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْكَ ، فَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللَّهِ وَلَجَأْتَ إِلَيْهِ ، كَفَّهُ عَنْكَ وَرَدَّ كَيْدَهُ . وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ : " أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ " .

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي "سُورَةِ الْأَعْرَافِ" عِنْدَ قَوْلِهِ : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ . وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ . وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ )؛ لَكِنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ أَخَفُّ عَلَى النَّفْسِ مِمَّا ذُكِرَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ [يعني : فصلت] ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْجَاهِلِ وَتَرْكَهُ : أَخَفُّ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسِيءِ ، فَتَتَلدَّد النَّفْسُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا تنقَادَ لَهُ إِلَّا بِمُعَالَجَةٍ ، وَيُسَاعِدُهَا الشَّيْطَانُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَتَنْفَعِلُ لَهُ ، وَتَسْتَعْصِي عَلَى صَاحِبِهَا ، فَتَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةٍ وَقُوَّةِ إِيمَانٍ ؛ فَلِهَذَا أَكَّدَ ذَلِكَ هَاهُنَا بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ فَقَالَ : ( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) !! ". انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/181) .

وقد روى مسلم في صحيحه (2558) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه :" أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ لِي قَرَابَةً : أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ؟!

فَقَالَ : لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ ؛ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ ، مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ.

قال النووي رحمه الله :" ( الْمَلُّ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ : الرَّمَادُ الْحَارُّ ، وَ ( تُسِفُّهُمْ ) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ ، وَ ( الظَّهِيرُ ) الْمُعِينُ ، وَالدَّافِعُ لِأَذَاهُمْ . وَقَوْلُهُ : ( أَحْلُمُ عَنْهُمْ ) بِضَمِّ اللَّامِ . ( وَيَجْهَلُونَ ) أَيْ : يُسِيئُونَ ، وَالْجَهْلُ هُنَا : الْقَبِيحُ مِنَ الْقَوْلِ .

وَمَعْنَاهُ : كَأَنَّمَا تُطْعِمُهُمُ الرَّمَادَ الْحَارَّ ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْأَلَمِ ، بِمَا يَلْحَقُ آكِلِ الرَّمَادَ الْحَارَّ مِنَ الْأَلَمِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى هَذَا الْمُحْسِنِ ، بَلْ يَنَالُهُمُ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ فِي قَطِيعَتِهِ ، وَإِدْخَالِهِمُ الْأَذَى عَلَيْهِ .

وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أنَّكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ : تُخْزِيهِمْ ، وَتُحَقِّرُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ ، لِكَثْرَةِ إِحْسَانِكَ وَقَبِيحِ فِعْلِهِمْ ، مِنَ الْخِزْيِ وَالْحَقَارَةِ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ ، كَمَنْ يُسَفُّ الْمَلُّ .

وَقِيلَ : ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانِكَ كَالْمَلِّ يُحَرِّقُ أَحْشَاءَهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ". انتهى من "شرح مسلم" (16/89) .

ثالثا:

مما يعين العبد على احتمال أذى الخلق، أن يستحضر مشهد القدر، وأن هذا كالمرض، والحر والبرد، وأن الأمر كله بيد الله سبحانه، وهذا ضمن مشاهد أخر بينها الإمام ابن القيم رحمه الله، يحسن بك وبكل محزون مبتلى أن يتأملها.

قال رحمه الله في كتابه "مدارج السالكين" عند الحديث عن منزلة الخُلق (2/303):

"وههنا للعبد أحد عشر مشهدا فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:

أحدها: المشهد الذي ذكره الشيخ رحمه الله ، وهو مشهد القدر وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره، فيراه كالتأذي بالحر والبرد والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار، فإن الكل أوجبته مشيئة الله ، فما شاء الله كان ووجب وجوده ، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده، وإذا شهد هذا استراح ، وعلم أنه كائن لا محالة ؛ فما للجزع منه وجه، وهو كالجزع من الحَر.

المشهد الثاني: مشهد الصبر، فيشهده ، ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور، ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام ، فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة، وعلم أنه إن لم يصبر اختيارا على هذا وهو محمود ، صبر اضطرارا على أكبر منه وهو مذموم.

المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم ؛ فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته ، لم يعدل عنه إلا لعشى في بصيرته ، فإنه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، كما صح عن النبي وعلم بالتجربة والوجود ، وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل. هذا وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ، ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.

المشهد الرابع: مشهد الرضى وهو فوق مشهد العفو والصفح ، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله ، فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته : رضيت بما نالها في الله ، وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره ، ومتى تسخط به وتشكى منه ، كان ذلك دليلا على كذبه في محبته ، والواقع شاهد بذلك.

والمحب الصادق كما قيل:

من أجلك جعلت خديَ أرضا * للشامت والحسود حتى ترضى

ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه ، فلينزل عن درجة المحبة ، وليتأخر ؛ فليس من ذا الشأن.

إلى أن قال:

"المشهد العاشر: مشهد الأسوة ، وهو مشهد شريف لطيف جدا ؛ فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه ، فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس ، وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحُدور ، ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم ، وشأن نبينا وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله ، وقد قال له ورقة بن نوفل: ( لتُكذبن ولتُخرجن ولتُؤذين ) ، وقال له: ( ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي )، وهذا مستمر في ورثته ، كما كان في مُوَرِّثهم، أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله ، وخواص عباده، الأمثل فالأمثل، ومن أحب معرفة ذلك ، فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم ، وقد صنف في ذلك ابن عبدالبر كتابا سماه محن العلماء.

المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد ، وهو أجل المشاهد وأرفعها ؛ فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته ، وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والإنس به ، واطمأن إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه ، واتخذه وليا دون من سواه، بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته ، وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه،= فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة، فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة؛ فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ، ويعوضه منه، فهو قلب جائع غير شبعان ، فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه ، وانبعثت إليه دواعيه. وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها، فإنه لا يلتفت إلى ما دونها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم" انتهى كلامه رحمه الله.

نسأل الله أن يهدي أخاك وأن يصلح حاله وحالك.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب