لماذا روى البخاري أحاديث قد تثير الشبهات؟

السؤال: 261573

في حوار مع أحدهم طرح علي هذا السؤال: لماذا يروي البخاري أحاديث قد تطرح شبهة لدى البعض، كحديث إنكار ابن مسعود للمعوذتين؟
أرجو من فضيلتكم تبيان الفائدة المرجوة من أحاديث هكذا .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

من المعلوم لدى العلماء أن التسليم الأعمى بالمقدمات التي يطرحها المجادل أو المحاور، هو أحد أكثر المزالق انتشارا بين غير المتخصصين، يسمع أحدهم الشبهة فتقع في قلبه وعقله، ويبدأ رحلة البحث عن مخلص منها، وحقيقة الأمر أنها ليست بشبهة أصلا !!

ونحن نجد سؤال السائل هنا من هذا القبيل، فالمحاور أوهمه أن ما يرويه البخاري هو من الشبهات الخطيرة التي لا تُلقي في قلب سامعها سوى الشك والحيرة، فسلم له بهذه المقدمة، وبدأ يتساءل : لماذا يصنع البخاري ذلك ؟!

وحقيقة الأمر أن هذه الأوهام ليست من الشبهات أصلا.

فالباحث الموضوعي المنصف يفترض دائما – وهو يبحث في تراث ضخم واسع كالتراث الإسلامي – أن قدرا من الاختلاف والتفاوت ، لا بد وأن يقع أثناء نقل هذا التراث وتحريره، وأن جهود العلماء والباحثين في التحرير والتمحيص عبر القرون ، لا بد أن يتخللها بعض التنوع في الاجتهاد والآراء؛ لأن طبيعة البشر ونقص قدراتهم : تقتضي وقوع ذلك ولا بد.

ومن هنا لم يجد العلماء ضيرا أن يخالف الصحابي الواحد ، أو الصحابيان الاثنان ، في آية ، أو بضع آيات من القرآن الكريم؛ لأن الخلل والشبهة هنا لم تلحق القرآن الكريم نفسه بحمد الله، وإنما الغلط إنما وقع من هذا الصحابي المخالف، الذي لم يتسق قوله مع أكثر من مائة ألف من الصحابة الكرام الذين نقلوا القرآن الكريم للأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والخلل على الصحابي – بحكم بشريته – وارد لا محالة ولا غرابة، وقد سبق الجواب عليه تفصيلا في الفتوى رقم: (197942)، لكن الغرابة أن يتحول ذلك إلى "شبهة" تلحق الإسلام والقرآن !!

ثم يأخذ الوهم بعدا آخر ، فيقال : إن البخاري هو المتسبب بهذه الشبهة والفتنة!

ليس هذا هو الطرح العلمي المتسق مع السياق الطبيعي للقضية، ولكن الطارئين على البحث والعلم ، هم الذين يُهولون من شؤون هذه الجزئيات، وكأن فتاتا قليلا ، في طوبة صغيرة ، ينبغي له أن يؤثر في صرح بناء شامخ ، من التراث الهائل الذي نقلته الأجيال بأمانة إلى يومنا هذا.

وما يظنه السائل شبهات في مرويات البخاري ، ليس في حقيقة الأمر كذلك .

ولو سلمنا بأن كل إشكال يطرحه عالم أو جاهل هو شبهة مؤثرة في النص ، للزمنا أن نجعل النصوص كلها شبهات، بل وسيتفاقم الإشكال في كل تصوراتنا وتصديقاتنا ، ومعارفنا وتجاربنا ، ليطرأ عليها الشك والحيرة؛ بدعوى أن أحدهم تعرض لذلك : بالطعن أو الإشكال!

ومن يعترض على الإمام البخاري في روايته لهذه الأحاديث والآثار، فغايته أن يتورط مرة ثانية ، فيعترض على القرآن الكريم نفسه ؛ لأن القرآن الكريم أيضا تعرض من قبل الطاعنين للكثير من الادعاءات، فلا تكاد تخلو سورة من السور من تعرض المشككين والطاعنين !!

ولو تأمل هذا المتحدث معنا لوجد أنه مزلق فعلا، أن نعترف لكل متحدث بمصداقية شبهته، ونعتمد له اعتراضه وشكوكه .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة؛ بل القول كله محكم كما قال: (أحكمت آياته ثم فصلت) " انتهى من " مجموع الفتاوى" (13/ 144) .

ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله:

"المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول ، وإن توهم بعض الناس فيها ذلك؛ لأن من توهم فيها ذلك؛ فبناء على اتباع هواه، كما نصت عليه الآية قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) [آل عمران: 7] ؛ لا أنه بناء على أمر صحيح .

فإنه إن كان كذلك؛ فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف، وإن فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله ، فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي لا لمخالفته لها .

وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة؛ فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة ، وأخبار بمعان كثيرة، ربما يتوهم القاصر النظرِ فيها الاختلاف، وكذلك الأعجمي الطبع، الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه ، وهو جاهل به .

ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث، ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول، وضموا إلى ذلك جهلهم بحِكَم التشريع، فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه؛ فتاهوا.

فإن القرآن والسنة لما كان عربيين ، لم يكن لينظر فيهما إلا عربي، كما أن من لم يعرف مقاصدهما ، لم يحل له أن يتكلم فيهما؛ إذا لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما، فإنه إذا كان كذلك؛ لم يختلف عليه شيء من الشريعة.

ولذلك مثال يتبين به المقصود، وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس؛ فقال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي. [وذكر مثالا مع جواب ابن عباس ، ثم قال]:

وهو يبين أن جميع ذلك معقول ، إذا نُزل منزلته، وأُتي من بابه، وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون، وما أشكل على الطالبين، وما وقف فيه الراسخون، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء: 82]" انتهى من "الموافقات" (3/212-216) .

وإذا كان القرآن الكريم – وهو كلام رب العالمين القطعي الثبوت – قد قرأه فئام من الناس قراءة شكية توهمية، تنسب إلى النص المتعالي ، ألوانا من الشبهات والخزعبلات التي لا يحتملها النص من قريب أو بعيد، فمن باب أولى أن يتعرض النص النبوي – مع ظنية ثبوته – لمثل هذا النوع من الطعن والتحريف .

ولذلك كان المعول عليه ، عن أهل العلم : ما تمليه القواعد المنهجية والضوابط العلمية، العلم الحديث ورجاله ، ولا يشكون في أن القواعد المنهجية هي الوحيدة القادرة على بلوغ درجة الاتساق المطلوب، والتآلف المأمول ، ما بين لفظ النص النبوي ، وتعقل دلالاته ودرجة قبولها .

فالمنهج العلمي : هو أقصر الطرق ، وأقربها إلى درء الشبهات ، وتقرير المحكمات !!

ونحن على يقين لو أن البخاري رحمه الله تحمَّل الأحاديث النبوية الصحيحة التي يطعن بها هؤلاء المبالغون، ثم أخفاها ولم يبرزها في أبواب كتابه، لقالوا: يكتم العلم ويخفي ما يخالف رأيه. واتهموه بالانحياز والخيانة العلمية وانعدام المصداقية!

ولكنه حين التزم الموضوعية والمنهجية، وسلك القواعد الحديثية المعتمدة في تصحيح الأحاديث والانتقاء منها، بالنظر الدقيق في السند والمتن معا، لم يعجبهم ذلك، وقالوا: هلا أخفى وكتم ما يثير الشبهات ويخالف آراءنا وأهواءنا!

ولهذا حرص الصحابة الكرام أنفسهم على التحديث بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، رغم إدراكهم أنه سيساء فهم بعض مروياتهم ولا بد، ولكنهم ، حرصا على أداء الأمانة، وتحري النزاهة، وعدم تفويت أي قدر من العلم قد يكون نافعا يوما ما للبشرية : لم يترددوا في التحديث بتلك الأحاديث.

فهذا معاذ بن جبل يحدث الناس بحديث (مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) رواه البخاري (128) .

ورغم علم معاذ بتواكل بعض الناس ، بسبب فهمهم الخاطئ للحديث، وظنهم أن الحساب لا يدركهم ما جاؤوا بالشهادتين ؛ فقد اختار أن يحدث الناس بما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، كي لا يموت وهو كاتم لعلم ينتفعون به، لذلك جاء في رواية الحديث: وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.

وكذلك فعل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه حين حدث بحديث: (مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ) رواه البخاري (5827) ، ومسلم (94) .

والأمثلة على ذلك كثيرة وعديدة، والمقصود هنا التمثيل لا الحصر والاستقراء.

ولو رحنا نتصور أن الإمام البخاري سيكتم الأحاديث التي يتكلف الشيعة لها الشبهات، وأن الإمام أحمد سيخفي الأحاديث التي يشكك فيها المعتزلة، وأن الإمام النسائي سيطوي مرويات فضائل بعض الصحابة خشية من طعن النواصب ونحوهم، وأن الإمام الدارقطني لن يسوق أبدا حديثا يستشكله أهل زمانه... وهكذا في متوالية لا حصر لها – لو تخيلنا هذا العالم وما يؤول إليه من فساد لعلم الحديث خاصة، ولجميع العلوم الشرعية وغير الشرعية، ماذا سيؤول إليه الحال، وأي علم يبقى بعد ذلك، وأي خلل يمكن معالجته بعد ذلك!

بل عوَّدنا علماء الحديث – في منهجيتهم الموضوعية الصارمة – أنهم يروون الأحاديث التي لا يرون هم أنفسهم العمل بمضمونها، ولكن حرصا على أمانة النقل، وأداء العلم للأجيال، كانوا يسوقون تلك الأحاديث في كتبهم، ويعقبونها بدليلهم على مخالفتهم لمضمونها.

قال ابن المعذل:

سمعت إنساناً سأل ابن الماجشون: لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ قال: ليُعلم أنّا على عِلمٍ تركناه. "ترتيب المدارك" (1/11)

ويقول الرامهرمزي:

"وليس يلزم المفتي أن يفتي بجميع ما روى، ولا يلزمه أيضا أن يترك رواية ما لا يفتي به، وعلى هذا مذاهب جميع فقهاء الأمصار، هذا مالك يرى العمل بخلاف كثير مما يروي" انتهى من "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" (ص322) .

هذا وقد ثبت لنا بالبحث التفصيلي أن أكثر ما يستشكله أولئك المشتبهون في "صحيح البخاري" ـ إنما أتوا فيه من قلة اطلاعهم، وضعف نظرهم، ووهاء بحثهم في النقليات والعقليات.

وقد أثبتنا ذلك في العديد من إجاباتنا المنشورة على هذا الموقع المبارك، فلا يمكن بعد ذلك أن يتوجه العتب على البخاري نفسه، وعلى روايته ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فلانا وفلانا لم تعجبهم مضامين تلك الروايات!

وفي جميع الأحوال، نحن لا ننكر وقوع "المشتبهات" في السنة النبوية، فقد وقعت في القرآن الكريم، فمن باب أولى أن تعترضنا أيضا في السنة الصحيحة. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) آل عمران/ 7 .

ولكن فلنلاحظ معًا أن العلاج القرآن لتشابه بعض الآيات اليسيرات : هو بالرجوع إلى العلم وقواعده، والتأمل في وحدة الحق ، واجتماع الصواب في كل من العقل والنقل، ولهذا قال سبحانه: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

وهذا هو الواجب علينا في التعامل مع ما ( قد ) يشتبه من السنة النبوية ؛ أن نعمل فيه الألباب، ونسلك قواعد العلم، ونفتش عن أسباب الفهم والتعقل السليمين، بعيدا عن العواطف والأهواء.

وقد أجاب الإمام ابن قتيبة (ت276هـ) على أمثال هذه الشبهة قديما، حين طعن المعتزلة على المحدثين بسبب ما قالوا إنها أحاديث مزرية بالعقل والنقل معا. واتهموا المحدثين في سياقهم تلك الروايات. فقال رحمه الله:

"أما بعد. أسعدك الله تعالى بطاعته، وحاطك بكلاءته، ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله. فإنك كتبت إلي تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث، وامتهانهم، وإسهابهم في الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب، ورواية المتناقض، حتى وقع الاختلاف، وكثرت النحل، وتقطعت العصم، وتعادى المسلمون، وأكفر بعضهم بعضا، وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث:... فالمرجئ يحتج بروايتهم: (من قال لا إله إلا الله، فهو في الجنة)...والرافضة تتعلق في إكفارها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايتهم: (ليردن علي الحوض أقوام ثم ليختلجن دوني)

وقد تدبرت - رحمك الله - كلام العايبين، والزارين، فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويعيبون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل.

ولو ردوا المشكل منهما، إلى أهل العلم بهما، وضح لهم المنهج، واتسع لهم المخرج. ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة، وحب الأتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات. والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضا. ولو ظهر لهم من يدعي النبوة - مع معرفتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية - لوجد على ذلك أتباعا وأشياعا.

وقد كان يجب - مع ما يدَّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح، والمهندسون، لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق؛ لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد. فما بالهم أكثر الناس اختلافا. لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين!

ولن يعدم هذا مَن رَدَّ مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره، وما أوجبه القياس عنده، لاختلاف الناس في عقولهم وإراداتهم واختياراتهم.

فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين، حتى يكون كل واحد منهما يختار ما يختاره الآخر، ويرذل ما يرذله الآخر، إلا من جهة التقليد.

والذي خالف بين مناظرهم وهيئاتهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وخطوطهم وآثارهم -حتى فرق القائفُ بين الأثر والأثر، وبين الأنثى والذكر -هو الذي خالف بين آرائهم، والذي خالف بين الآراء، هو الذي أراد الاختلاف لهم، ولن تكمل الحكمة والقدرة ، إلا بخلق الشيء وضده ، ليعرف كل واحد منهما بصاحبه. فالنور يعرف بالظلمة، والعلم يعرف بالجهل، والخير يعرف بالشر، والنفع يعرف بالضر، والحلو يعرف بالمر؛ لقول الله تبارك وتعالى: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون

ولو أردنا -رحمك الله- أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم، إلى أصحاب الكلام ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماع إلى تشتت، وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف" انتهى باختصار من "تأويل مختلف الحديث" (ص47-63) .

ثم بعد ذلك كله نقول أيضا:

إنه على فرض الاعتراف المبدئي بأهلية الشبهة المزعومة للنظر فيها، فقد تحدثنا سابقا في موقعنا في مجموعة من الأجوبة – منها : (225967) - عن حكمة "الابتلاء المعرفي"، أي أن الله سبحانه وتعالى بنى هذه الحياة في ثنائيتها الجسدية والعقلية على حكمة "الابتلاء" و"الاختبار"، فالبدن يبتلى بالشهوة أو المرض أو العجز أو الفقر أو السجن ونحو ذلك، والعقل يبتلى بالجهل والتأويل والنسيان والخطأ والشبهة ونحو ذلك.

كل ذلك ليثبت الإنسان أنه قادر بعون الله على إصلاح الأرض وإعمارها ونشر الخير والحق والفضيلة بإرادته واختياره، رغم كل هذه الامتحانات القاسية، ولكن الله سبحانه لم يترك الإنسان في ضعفه وقلة حيلته، بل أعانه بما يساعده على النجاح في هذا الاختبار الكبير، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ومشاهدة الآيات والنذر، وعبرة التاريخ، وقدرة العقل الهائلة، وفطرة النفس المركوزة، وغيرها من المؤيدات المعينة على الخير والصلاح.

أضف إلى ذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون حقائق معاني بعض الآيات في القرآن الكريم خفية أو مبهمة ، كي يجتهد المجتهدون، ويثور العلم في الكتب والعقول، ويمحص الله الذين آمنوا واستسلموا للدليل من الذين يتبعون أهواءهم، كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) آل عمران/7.

يقول ابن العربي المالكي رحمه الله:

"قال العلماء: لو كان القرآن كله سواء فى البيان، ودرك المعنى، لما تفاوتت درجات العلماء، وقد سبق من حكم الله أن قوما يرفعون بالعلم، ويتفاوتون في المعرفة، فوقعت أحوالهم على ما وقع به العلم من تنويع البيان لهم" انتهى من "عارضة الأحوذي" (1/ 124)

ويقول الراغب الأصفهاني تحت عنوان: "فصل في بيان حكمة الله تعالى في جعله بعض الآيات متشابهاً":

"سُئل بعض العابدين، فقيل له:

ما بال القرآن جعل بعضه محكماً وبعضه متشابهاً. وهلاَّ جعل كله على نمط المحكم حتى كان يكفي الإنسان مؤونة النظر الذي قل ما سلم متعاطيه من زلة؟

وهذه مسألة نسأل عنها في الأحكام أيضاً فنقول: هلاَّ بينها كلها حتى يستغنى عن جهد الرأي الذي لا يؤمن خطؤه ؟

بل سُئِل عنها أيضاً في أصل التكليف، فيقال: هلاَّ خوّلنا الله إنعامه بلا مشقة ولا مؤنة ، حتى كان عطاؤه أهنأ منالاً ؟

فقال:

الجواب عن جميع ذلك واحد، وهو أن الله تعالى خص الإنسان بالفكر والتمييز، وشرفَهُ بهما، حتى قال تعالى: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، وجعله بذلك خليفة في الأرض فقال للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )، وقال تعالى: ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وقال تعالى: ( وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) الآية، وقال تعالى: ( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) .

وكفاه شرفاً بما أعطاه من هذه المنزلة : أنه قد صير لأجلها شريفاً موصوفاً بالعلم والحلم والحكمة، وكثير من الصفات التي هي من صفاته تعالى، وإن لم تكن على حَدَّها وحقيقتها.

ولما خصه الله تعالى بهذه الفضيلة - أعني بالفكر والروية - أعطاه كل ما أعطاه من المعارف قاصرة عن درجة الكمال، ليكمله الإنسان بفكرته، لئلا تتعطل فائدتها، وإلا كانت موجداً لما لا فائدة فيه، وذلك شنيع يُنزه عنه الباري سبحانه .

وعلى ذلك أحوال كل ما أوجده لنا من المأكولات والمشروبات، لأنه أوجد لنا أصول الأغذية، ثم هدانا بما خولنا من التميز إلى تركيبها، وتناول ما نحتاج إليه ، على الوجه الذي نحتاج ، وفي الوقت الذي نحتاج !!

فإذا ثبت ذلك فتأويل كتاب الله تعالى وأحكام شرائعه وسائر معانيه قسمان:

جليَّ، وخفيَّ، فالجلي: ما أدركناه إما بالحاسة، أو ببديهة العقل.

والخفي: ما يتوصل إليه بوساطة أحد هذين .

فسبحان الذي شرف الإنسان بهذه المنزلة السَّنِية ، لتكون ذريعة لهَ إلى إدراك الحياة الأبدية ، وتحصيل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، كما قال تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ" انتهى من "تفسير الراغب" (1/35) .

ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

" الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه : لو كان القرآن كله محكما ، لفاتت الحكمة من الاختبار به تصديقا وعملا؛ لظهور معناه، وعدم المجال لتحريفه، والتمسك بالمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

ولو كان كله متشابها : لفات كونه بيانا، وهدى للناس، ولما أمكن العمل به، وبناء العقيدة السليمة عليه.

ولكن الله تعالى بحكمته : جعل منه آيات محكمات، يُرجع إليهن عند التشابه، وأخر متشابهات، امتحانا للعباد، ليتبين صادق الإيمان ممن في قلبه زيغ، فإن صادق الإيمان يعلم أن القرآن كله من عند الله تعالى، وما كان من عند الله فهو حق، ولا يمكن أن يكون فيه باطل، أو تناقض لقوله تعالى: (لا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 42)، وقوله تعالى: (لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) النساء/ الآية 82 .

وأما من في قلبه زيغ، فيتخذ من المتشابه سبيلا إلى تحريف المحكم، واتباع الهوى في التشكيك في الأخبار، والاستكبار عن الأحكام، ولهذا تجد كثيرا من المنحرفين في العقائد والأعمال، يحتجون على انحرافهم بهذه الآيات المتشابهة" انتهى من "أصول في التفسير" (ص: 45)

وينظر:
الردود على شبهة إنكار المعوذتين المنسوبة إلى ابن مسعود

والله أعلم

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android