أولًا:
أما كون يوم الجمعة يوم عيد، فقد ثبت هذا في غير ما حديث ، منها :
ما أخرجه الترمذي في "سننه" (3044) عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ ، قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا وَعِنْدَهُ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: لَوْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ عَلَيْنَا لاَتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ ". والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح المشكاة" (1368).
ومنها ما أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1098) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ ، جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ والحديث حسنه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه" (901) .
والفرح يوم الجمعة لكونه عيدًا أمر لا إشكال فيه ، وذلك لكثرة فضائل يوم الجمعة ، قال ابن رجب في "فتح الباري" (1/174) :" والأعياد: هي مواسم الفرح والسرور ؛ وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته ، كما قال تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [يونس: 58] فشرع لهم عيدين في سنة، وعيدا في كل أسبوع ...
وأما عيد الأسبوع: فهو يوم الجمعة ، وهو متعلق بإكمال فريضة الصلاة ؛ فإن الله فرض على عباده المسلمين الصلاة كل يوم وليلة خمس مرات ، فإذا كملت أيام الأسبوع التي تدور الدنيا عليها، وأكملوا صلاتهم فيها: شرع لهم يومَ إكمالها - وهو اليوم الذي انتهى فيه الخلق وفيه خلق آدم وأدخل الجنة - عيدًا يجتمعون فيه على صلاة الجمعة ، وشرع لهم الخطبة تذكيرا بنعم الله عليهم وحثا لهم على شكرها ، وجعل شهود الجمعة بأدائها كفارة لذنوب الجمعة كلها، وزيادة ثلاثة أيام ". انتهى.
وما ذكره السائل من أن الساعة تقوم يوم الجمعة ، وأن الخلائق مشفقة خائفة يوم الجمعة: ثابت أيضا من عدة أحاديث ، منها :
ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (854) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ومنها ما أخرجه مالك في "الموطأ" (241) ، وأحمد في "المسند" (10303) ، وأبو داود في "سننه" (1046) ، والنسائي في سننه (1430) من حديث أبي هريرة ، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشمسُ يَومُ الجُمعة: فيه خُلِقَ آدمُ ، وفيه أُهْبِطَ ، وفيه تِيبَ عليه ، وفيه مات ، وفيه تقومُ الساعة ، وما مِنْ دابة إلا وهي مُسيخة يَوْمَ الجُمعة، مِن حِين تُصبِحُ حتى تطلُعَ الشمسُ؛ شَفَقاً مِنَ الساعةِ، إلا الجِنَ والإنسَ. وفيه ساعةٌ لا يُصادِفُها عبد مسلم وهو يُصَلّي، يسأل الله حاجةً؛ إلا أعطاه إياها والحديث صحيح فقد ذكر ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (4/103) أن إسناده على شرط الشيخين، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (961).
ثانيًا:
وأما ما استشكله السائل من كيف يمكن الفرح بيوم الجمعة لكونه عيدا للمسلمين، مع ما ورد من إشفاق الخلائق خشية قيام الساعة ، فجواب ذلك :
أن الفرح بكونه عيدا فرح مشروع بفضل الله الذي هدى هذه الأمة ليوم الجمعة ، وفرح بصلاة الجمعة ، وغير ذلك من فضائل اليوم المبارك .
وهذا فرح بالطاعات والعبادات، لا يعارض أن يكون العبد على وجل من قيام الساعة، أو خشية من الله جل جلاله، ولا علاقة لذلك الفرح بما يتصوره السائل من مظاهر الفرح والسرور في المناسبات والأعياد المعتادة، ليس فيه غناء .. ولا دف .. ولا لهو .. ولا لعب؛ فلا إشكال في كون ذلك اليوم عيدا، وأن يفرح المؤمن بنعمة الله على هذه الأمة، وهدايتهم للجمعة التي ضل عنها الأمم من قبلنا.
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ.
رواه البخاري (876) ومسلم (855).
وأما إشفاق الخلائق دون الثقلين الإنس والجن فقد ذكر أهل العلم لذلك عدة توجيهات، منها :
أن الله تعالى أعلمها بأن الساعة تكون يوم الجمعة، ولم يُعلمها بالوقائع التي تكون قبل قيام الساعة ، لذا فإنها تكون مشفقة خائفة من قيام الساعة كل جمعة ، بخلاف الإنسان فإن الله تعالى أعلمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أشراط الساعة، وما يكون قبلها ، وأعلمه أنها لا تقوم إلا على شرار الخلق، بعد أن تشرق الشمس من مغربها.
وهذا التوجيه نقله الباجي في "المنتقى" (1/201) فقال : "إصَاخَتَهَا إنَّمَا هِيَ تَوَقُّعٌ لِلسَّاعَةِ وَشَفَقَةٌ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ : (إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ): اسْتَثْنَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْجِنْسِ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ، إذْ هَذَا الْجِنْسُ لَا يُصِيخُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إشْفَاقًا مِنْ السَّاعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَشْرَاطًا يَنْتَظِرُهَا ". انتهى.
وقال الرافعي في "شرح مسند الشافعي" (2/8) قوله: (شفقًا من الساعة) أي: خوفًا؛ كأنها أعلمت أنها تقوم يوم الجمعة، فتخاف هي قيامها كل جمعة". انتهى.
وقال السندي في "حاشيته على سنن ابن ماجه" (1/336) قَوْلُهُ : (يُشْفِقْنَ): مِنَ الْإِشْفَاقَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَفِيهِ: أَنَّ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ تَعْلَمُ الْأَيَّامَ بِعَيْنِهَا. وَأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا تَعْلَمُ الْوَقَائِعَ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِيَامَةِ، أَوْ مَا تَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْوَقَائِعَ وُجِدَتْ إِلَى الْآنَ ". انتهى
الوجه الثاني: أن كل جمعة يُجري ربُّ العالمين أمورا عظاما لا يشعر بها الإنسان، وإنما تشعر بها الخلائق فيحدث ذلك بها خوفا ووجلًا من قيام الساعة.
قال التوربشتي في "الميسر في شرح مصابيح السنة" (1/333) :" ويجوز أن يكون وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة: أن الله تعالى يظهر يومَ الجمعة في أرضه من عظائم الأمور ، وجلائل الشئون ، ما تكاد الأرض تميد بها ؛ فتبقي كل دابةٍ ذاهلةً دهشةً؛ كأنها مُسيخةٌ؛ للرعب الذي يداخلها، والحالة التي تشاهدها؛ حتى كأنها تشفق شفقتها من قيام الساعة ". انتهى
والتوجيه الأول أقوى .
وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتغير لونه عند هبوب الريح؛ فنعم، لكن لا علاقة لهذا بيوم الجمعة وما يكون فيه؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يكن يتغير وجهه يوم الجمعة، ولم يكن يتغير حالُه فيه – وجلًا ولا خشيةً - عن سائر الأيام، ولا نقل أنه كان يحدث فيه حالا تتعلق بيوم الجمعة وما يكون فيه من الأهوال؛ إنما كان يتهيأ لصلاة الجمعة، ويلبس له أحسن ثيابه، كما هو شأنه في يوم العيد، ويندب المسلمين فيها إلى مثل ذلك.
والله أعلم.