هل يصح أن يقال: إن الله جل جلاله خلق نفسه؟

السؤال: 259874

كنت أتابع محاضرة يفترض أنها لأخذ العلم , ورد فيها - الله تعالى خلق نفسه بنفسه - سبحان الله ألا يعني هذا أن الله تعالى ( مخلوق ) ؟! ألا يعني هذا أن لله تعالى ( بداية ) ؟! سبحان الله لكن أنا منذ سمعت تلك الشبهة ( رغم أني رفضتها و لم أقر ذلك ) لكني أصبحت مهموما حزينا أرجو منكم أن تفصلوا و توضحوا الأمر - سبحان الله عما يصفون ثم هل يقال عن الله الملك أنه أزلي و أبدي ؟! هذا لا يجوز فالزمان و المكان من خلق الملك أرجو التفصيل فيما سبق و جزاكم الله خيرا

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

الله تعالى هو الخالق، وما سواه مخلوق، ولا يجوز أن يقال: إن الله خلق نفسه، أو أوجد نفسه، بل هذا منكر عظيم، فالله تعالى خالق وليس مخلوقا، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، سبحانه وتعالى وتقدس.

وهذه الجملة (خلق نفسه) فيها جمع بين النقيضين، والجمع بينهما محال، فإذا قلت: خلقَ، فهذا يعني أنه موجود وخالق. وإذا قلت: نفسَه، فهذا يعني أن معدوم ثم خُلق ووُجد.، فيكون خالقا مخلوقا، موجودا معدوما، وهذا محال.

ولسنا بحاجة لذكر النصوص الدالة على أن الله هو الرب الخالق الموجد، لكن نبيّن هنا أن سؤالا محالا يشبه الجملة التي ذكرت، هو من أسئلة إبليس!

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من شبهات إبليس ووسوسته أن يسأل العبد: من خلق الله؟

روى البخاري (3276) ومسلم (134) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ).

وروى البخاري (7296) ومسلم (136) عن أَنَس بْن مَالِكٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ).

 قال ابن بطال رحمه الله نقلا عن غيره: "فإن وسوس الشيطان فقال: ما المانع أن يخلق الخالق نفسه؟

قيل له: هذه وسوسة ينقض بعضها بعضا؛ لأن بقولك: "يخلق" قد أوجبت وجوده تعالى، وبقولك: "نفسه" قد أوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودًا ومعدومًا معًا : تناقض فاسد؛ لأن من شرط الفاعل تقدم وجوده على وجود فعله، فيستحيل كون نفسه فعلاً له؛ لاستحالة أن يقال إن النفس تخلق النفس التى هى هو، وهذا بين فى حل هذه الشُبه" انتهى من شرح صحيح البخاري (10/ 343).

ثانيا:

لا حرج في الإخبار عن الله تعالى بأنه أزلي وأبدي، لكن ليس ذلك من أسمائه، بل اسمه سبحانه: الأول، والآخر، كما قال تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الحديد/3

فالأول هو الذي ليس قبل شيء، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى مسلم (2713) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنه كان إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ: (اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ).

والأزلي هو الذي لا بداية له، فلم يسبَق بعدم، أي ليس مخلوقا.

قال في تاج العروس (27/ 442): " أَزلِيٌ مَنْسوبٌ إِلى الأَزَلِ، وهو ما ليسَ بمَسبُوقٍ بالعَدَم، والمَوْجُودُ ثلاثةُ أَقْسامٍ لا رابعَ لها: أزلِيٌ أَبَدِيٌّ، وهو الحَقُّ سُبحانه وتعالى، ولا أَزلِيٌ ولا أَبَدِيٌّ وهو الدُّنْيا، وأَبَدِيٌّ غيرُ أَزلِي وهو الآخِرَةُ، وعَكْسُه محالٌ؛ إِذ ما ثبَت قِدَمُه اسْتحال عَدَمُه .

وصَرَّحَ أَقوامٌ بأَنَّ الأَزلِيَ [ يعني : لفظة أزلي ] : ليس بعَرَبي. أَو أَصْلُه يَزَليٌ، مَنْسُوبٌ إِلى قوْلِهم للقدِيمِ: لم يَزلْ، ثمّ نُسِبَ إِلى هذا، فلم يَستقِم إِلا باخْتِصارٍ، فقالوا: يَزلِيٌ، ثم أبْدِلتِ الياءُ أَلِفًا للخِفَّةِ فَقالُوا: أَزلِيٌ، كما قالُوا في الرّمْحِ المَنْسُوبِ إِلى ذِي يَزن: أَزنيٌ، وِإلى يَثْرِبَ: نصْلٌ أَثْرَبيٌّ، نقله الصاغاني هكذا عن بعضِ أَهْلِ العِلْمِ " انتهى.

وقال الجرجاني في التعريفات ص17: " الأزل: استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي، كما أن الأبد استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل.

الأزلي: ما لا يكون مسبوقًا بالعدم" انتهى.

وانظر: جواب السؤال رقم (198069) في جواز الإخبار عن الله تعالى بما ليس توقيفيا، إذا صح معناه.

ولهذا تجد التعبير عن الله بالأزلي وبالقديم جاريا في كلام أهل العلم.

قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: " مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا ، كَذَلِكَ لَا يزال عليها أبديا" انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، فهو القديم الأزلي الدائم الباقي بلا زوال" انتهى من درء التعارض (1/ 122).

وما ذكرت من أن الزمان مخلوق، حق، ولا يشكل على قولنا: الله أزلي وأبدي، فقد علمت أن المقصود أنه لم يُسبق بعدم، وهو سبحانه خالق الزمان والمكان، وهو محيط بالقَبل والبعد.

قال ابن القيم رحمه الله :

" فأَولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أَولية كل ما سواه ، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه .

فأَوليته : سبقه لكل شيء .

وآخريته : بقاؤه بعد كل شيء .

وظاهريته سبحانه : فوقيته وعلوه على كل شيء . ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه .

وبطونه سبحانه : إِحاطته بكل شيء ، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه .

وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه ، هذا لون ، وهذا لون .

فمدار هذه الأَسماءِ الأَربعة على الإحاطة ، وهى إحاطتان : زمانية ، ومكانيه ؛ فأحاطت أَوليته وآخريته بالقبل والبعد ، فكل سابق انتهى إِلى أَوليته ، وكل آخر انتهى إِلى آخريته ؛ فأَحاطت أَوليته وآخريته بالأَوائل والأَواخر، وأَحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن ، فما من ظاهر إلا والله فوقه ، وما من باطن إِلا والله دونه ، وما من أول إلا والله قبله ، وما من آخر إلا والله بعده ، فالأَول قِدَمه ، والآخر دوامه وبقاؤه ، والظاهر علوه وعظمته ، والباطن قربه ودنوه .

فسبق كل شيء بأَوليته ، وبقى بعد كل شيء بآخريته ، وعلا على كل شيء بظهوره ، ودنا من كل شيء ببطونه ، فلا تواري منه سماء سماء ، ولا أرض أرضا ، ولا يحجب عنه ظاهر باطنا ، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة ، والبعيد منه قريب ، والسر عنده علانية .

فهذه الأَسماءُ الأَربعة تشتمل على أَركان التوحيد ، فهو الأَول فى آخريته ، والآخر فى أَوليته ، والظاهر في بطونه ، والباطن في ظهوره ، لم يزل أَولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً " انتهى من "طريق الهجرتين" ص31.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android