الحمد لله.
أولاً :
جعل الله القمر آية الليل ، فبه يكون سلطانه وظهوره ، قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ).
قال ابن كثير : " فجَعَلَ لِلَّيْلِ آيَةً ، أَيْ : عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا وَهِيَ الظَّلَامُ وَظُهُورُ الْقَمَرِ فِيهِ ، وَلِلنَّهَارِ عَلَامَةً ، وَهِيَ النُّورُ وَظُهُورُ الشَّمْسِ النَّيِّرَةِ فِيهِ ، وَفَاوَتَ بَيْنَ ضِيَاءِ الْقَمَرِ وَبُرْهَانِ الشَّمْسِ لِيُعْرَفَ هَذَا مِنْ هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ) " .
انتهى من "تفسير ابن كثير" (5/50).
ولذلك ، فكل الأحكام المتعلقة بالقمر إنما تثبت برؤيته ليلاً لا نهاراً .
قال أبو الحسنات اللكنوي : " فدل ذلك على أن القمر إنما هو آية الليل لا آية النهار
، فلا عبرة برؤيته بالنهار، وأن كونه مواقيت للناس والحج والصيام وغيرها ، وعلم عدد
السنين والحساب وغيرها إنما هو إذا طلع في الليلة ، لا في غيرها ".
انتهى من "الفلك الدوار في رؤية الهلال بالنهار" (ص: 18).
ولذلك صرح الفقهاء بأن صلاة الخسوف لا تُصلى لو ظهر القمر مخسوفاً في النهار؛
لذهاب سلطانه .
قال النووي: " وَلَوْ بَدَأَ خُسُوفُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ : لَمْ يُصَلِّ ،
بِلَا خِلَافٍ [يعني : في المذهب] " انتهى من "المجموع شرح المهذب" (5/54).
ثانياً :
ذهب عامة العلماء – وهو المعتمد في المذاهب الأربعة – إلى أن رؤية الهلال نهاراً لا
يترتب عليها شيء من الأحكام ، فلو رآه الصائم في نهار الثلاثين من رمضان ، فإنه
يستمر في صومه ولا يفطر ، ولو رآه المفطر في نهار الثلاثين من شعبان ، فلا يلزمه
الإمساك أو القضاء.
فالرؤية النهارية لا عبرة بها ، بل العبرة برؤية الهلال بعد غروب الشمس ، فقط .
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (3/67) بسند صحيح عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، قَالَ : " أَتَانَا
كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ بِخَانقِينَ ؛ أَنَّ الأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ
بَعْضٍ ، فَإِذَا رَأَيْتُمَ الْهِلاَلَ نَهَارًا فَلاَ تُفْطِرُوا ، حَتَّى
يَشْهَدَ رَجُلاَنِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالأَمْسِ". انتهى
وروى الْبَيْهَقِيُّ بسند صحيح عن سالم بن عبد الله بن عُمَرَ: " أَنَّ نَاسًا
رَأَوْا هِلَالَ الْفِطْرِ نَهَارًا ، فَأَتَمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا صِيَامَهُ إلَى اللَّيْلِ ، وَقَالَ: "لاَ ، حَتَّى يُرَى مِنْ
حَيْثُ يُرَى بِاللَّيْلِ" انتهى من "سنن البيهقي" (2/435).
وفي "الفتاوى الهندية" (1/197) : "وَإِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ قَبْلَ الزَّوَالِ
أَوْ بَعْدَهُ : لَا يُصَامُ بِهِ وَلَا يُفْطَرُ". انتهى
وقال أبو إسحاق الشيرازي : " لا يتعلق الصوم والفطر إلا بما نراه بعد الغروب ".
انتهى من "المهذب" (3/33).
وقال شمس الدين الرملي : "وَأَمَّا إذَا رُئِيَ يَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ
وَلَمْ يُرَ لَيْلًا : فَلَا قَائِلَ بِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى رُؤْيَتِهِ
أَثَرُهَا ، فَبَانَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا" انتهى من "فتاوى
الرملي" (2/78) .
وفي "كشاف القناع" (2/303) : " لَا أَثَرَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ نَهَارًا،
وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ بِالرُّؤْيَةِ بَعْدَ الْغُرُوبِ" . انتهى
وقال اللكنوي : " وقد صرحت أئمة المذاهب الأربعة : بأن الصحيح أنه لا عبرة بروية
الهلال نهاراً ، وإنما المعتبر برويته ليلاً" انتهى من "الفلك الدوار" (ص: 19).
والأحاديث التي علَّقت الصوم والفطر على رؤية الهلال إنما يراد بها رؤيته ليلاً
لا نهاراً .
قال صديق حسن خان : " إن الرؤية التي اعتبرها الشارع في قوله: ( صوموا لرؤيته ) هي
الرؤية الليلية ، لا الرؤية النهارية فليست بمعتبرة ، سواء كانت قبل الزوال أو بعده،
ومن زعم خلاف هذا؛ فهو عن معرفة المقاصد الشرعية بمراحل".انتهى من "الروضة الندية"
(2/11).
وقال أبو الحسنات اللكنوي : " ومنهم من زعم أن رؤية الهلال مطلقاً موجب للإفطار ؛ لحديث : ( أفطروا لرؤيته ) من دون فرق بين الليل والنهار ، وغفلوا عن أن المراد في الأحاديث الرؤية المعتادة ، وهي الليلة لا النهارية " انتهى من "الفلك الدوار" (ص: 9).
وقال الشيخ ابن عثيمين : " دخول الشهر لا يكون إلا حيث يرى الهلال بعد غروب الشمس متأخراً عنها" انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (16/301).
ثالثاً :
وقع في كلام كثير من الفقهاء أن الهلال إذا رؤي نهاراً فهو تابع لـ الليلة
المستقبلة لا الماضية ، وليس هذا من باب ترتيب أثرٍ على رؤية الهلال نهاراً ؛ لأن
مقصودهم من هذا الكلام : الرؤية التي تقع في يوم الثلاثين من شعبان أو رمضان ،
فحينئذٍ حكموا بكونها لليلة القادمة ، لأن الشهر قد كمل وتم ببلوغه الثلاثين ، فهو
من باب الإخبار بواقع الحال ، لا من ترتيب الحكم على الرؤية النهارية ، ورداً على
من يقول بأنه لـ الليلة الماضية كالقاضي أبي يوسف رحمه الله تعالى .
قال الإمام النووي رحمه الله : " إذا رأوا الهلال بالنهار ، فهو لليلة المستقبلة ،
سواء رأوه قبل الزوال أو بعده ، هذا مذهبنا لا خلاف فيه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك
ومحمد " .
انتهى من " المجموع " (6/279) ، ومثله في "المغني" لابن قدامة (3/173) .
وقال القليوبي : " وَلَا أَثَرَ لِرُؤْيَتِهِ الْهِلَالَ نَهَارًا ، أَيْ : فَلَا
يَكُونُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ فَيُفْطِرَ، وَلَا لِلْمُسْتَقْبَلِ فَيَثْبُتَ
رَمَضَانُ مَثَلًا ، وَمَنْ اعْتَبَرَ أَنَّهُ لِلْمُسْتَقْبلَةِ : صَحِيحٌ فِي
رُؤْيَتِهِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ ، لَكِنْ لَا أَثَرَ له ، لِكَمَالِ الْعَدَدِ ،
بِخِلَافِهِ يَوْمُ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ ، فَلَا يُغْنِي عَنْ رُؤْيَتِهِ
بَعْدَ الْغُرُوبِ لِلْمُسْتَقْبلَةِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ" انتهى من
حاشيته على "كنز الراغبين" (2/65) .
وقال ابن عابدين : " وَلَيْسَ كَوْنُهُ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ ثَابِتًا بِرُؤْيَتِهِ
نَهَارًا ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ عِنْدَهُمَا [أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن]
بِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ
الْخِلَافَ ـ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ وَالْفَتْحِ ـ إنَّمَا هُوَ
فِي رُؤْيَتِهِ يَوْمَ الشَّكِّ ، وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ
مِنْ رَمَضَانَ.
فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ
، وَرُئِيَ فِيهِ الْهِلَالُ نَهَارًا ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : ذَلِكَ الْيَوْمُ
أَوَّلُ الشَّهْرِ ، وَعِنْدَهُمَا : لَا عِبْرَةَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ ، وَيَكُونُ
أَوَّلُ الشَّهْرِ يَوْمَ السَّبْتِ ، سَوَاءٌ وُجِدَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ ، أَوْ
لَا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِينَ ، فَلَمْ تُفِدْ هَذِهِ
الرُّؤْيَةُ شَيْئًا .
وَحِينَئِذٍ ؛ فَقَوْلُهُمْ : هُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ؛ عِنْدَهُمَا :
بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، وَتَصْرِيحٌ بِمُخَالَفَةِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لِلْمَاضِيَةِ،
فَلَا مُنَافَاةَ حِينَئِذٍ بَيْنَ قَوْلِهِمْ هُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ عِنْدَهُمَا
، وَقَوْلِهِمْ لَا عِبْرَةَ بِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا عِنْدَهُمَا ، وَإِنَّمَا كَانَ
الْخِلَافُ فِي رُؤْيَتِهِ يَوْمَ الشَّكِّ، وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ؛ لِأَنَّ
رُؤْيَتَهُ يَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ : لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِيهَا إنَّهُ
لِلْمَاضِيَةِ ، لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ
، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ" انتهى من "حاشية ابن عابدين"
(2/392).
وقال الشيخ ابن عثيمين معلقا على قول الحجاوي: " وإن رئي نهاراً فهو لليلة المقبلة".
قال : " الضمير يعود على الهلال، والمؤلف لم يرد الحكم بأنه لليلة المقبلة، ولكنه
أراد أن ينفي قول من يقول: إنه لليلة الماضية، فإن بعض العلماء يقول: إذا رئي
الهلال نهاراً قبل غروب الشمس من هذا اليوم ، فإنه لليلة الماضية، فيلزم الناس
الإمساك.
وفَصَّل بعض العلماء بين ما إذا رئي قبل الزوال أو بعده.
والصحيح : أنه ليس لليلة الماضية " انتهى من "الشرح الممتع" (6/307).
تعليق