الانتحار بنية التوبة وترك كبائر الذنوب.

16-01-2023

السؤال 405248

(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)) أعلم أن الانتحار حرام، لكن في هذه الآية هل يعني إذا كان الانسان يريد فرصة جديدة في الحياة، ولكن لم يستطع لا الهجرة، ولا تغيير المكان، ولا تغيير الزمان، فهل أستطيع الانتحار بنية التوبة؛ لعدم امكانية التوبة بشكل طبيعي، وبنية إيقاف الكبائر ملوحظة : قرأت تفسير الشعراوي، وزادني إصرارا: "وقوله تعالى: (فاقتلوا أَنفُسَكُمْ)؛ لأن هذه الأنفس بشهوتها وعصيانها.. هي التي جعلتهم يتمردون على المنهج، إن التشريع هنا بالقتل هو كفارة الذنب؛ لأن الذي عبد العجل واتخذ إلها آخر غير الله، كونه يقدم نفسه ليقتل فهذا اعتراف منه بأن العجل الذي كان يعبده باطل، وهو بذلك يعيد نفسه التي تمردت على منهج الله إلى العبادة الصحيحة، وهذا أقسى أنواع الكفارة، وهو أن يقتل نفسه إثباتا لإيمانه، بأنه لا إله إلا الله، وندما على ما فعل، وإعلانا لذلك، فكأن القتل هنا شهادة صادقة للعودة إلى الإيمان".

ملخص الجواب:

الانتحار وقتل النفس كبيرة، والظن أن فيه توبة للعبد: هو ضلال مبين، وتسويل عظيم من الشيطان الرجيم. وينظر تفصيل الجواب المطول للأهمية

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

قبل أن نجيبك عما سألت عنه، نود منك أيها الأخ الكريم أن ترجع إلى نفسك، وأن ترجع إلى كتاب ربك، لتتأمله مرة أخرى، ولتبحث فيها كما بحثت عن هذه الآية.

ألم يخبرك الله تعالى في القرآن أن الدنيا دار بلاء ومشقة؟!

ألم يقل الله تعالى في القرآن: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ‌لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هود/7، وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ‌لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُالملك/2.

ألم يخبرنا الله تعالى في القرآن عن البلاء الذي تعرض له الأنبياء والصالحون، تأمل قصة أيوب نبي الله الذي ابتلي فصبر فجازاه الله جزاء الصابرين.

ثم ارجع إلى التأمل مرة أخرى، فتأمل قصة آدم عليه السلام، ألم يقع آدم في المعصية؟!

لكنه سرعان ما تاب، وأعلن الرجوع إلى الله، فاجتباه، وأكرمه، قال سبحانه: قَالَا ‌رَبَّنَا ‌ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الأعراف/23، وقال سبحانه:  وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ ‌اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى طه: 121-122].

ألم يخبرنا الله عن توبة نبي الله يونس؟!

قال سبحانه: وَذَا ‌النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) الأنبياء/87-88.

ألم يعص الصالحون من الصحابة، وتابوا، وتاب الله عليهم، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ‌ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ‌وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة/118.

أرأيت في كتاب ربك أن أحدًا من أنبياء الله قتل نفسه؟! أو أن الله أمر أحدًا من هذه الأمة أن يقتل نفسه ليتوب الله عليه؟!

إن من رحمة الله بهذه الأمة، أن فتح لها أبواب التوبة، قال تعالى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ ‌أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥) الزمر/53-55.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ‌يَبْسُطُ ‌يَدَهُ ‌بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا مسلم (2759).

ولعلك تراجع هذه الإجابة برقم: (204615)، وتتأملها بصورة جيدة.

ثانيًا:

قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ‌فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة/54.

ذكر أهل التفسير أن معنى قتل النفس في الآية، أي: ليقتل بعضكم بعضًا، وورد عن أهل التفسير أنهم: "عمدوا إلى الخناجر، فجعل يطعن بعضهم بعضًا"، انتهى من "تفسير الطبري" (1/679).

قال "الواحدي": "ومعنى قوله: ‌فَاقْتُلُوا ‌أَنْفُسَكُمْ أي: ليقتل البريء المجرم، وجاز هذا؛ لأن من قتل أخاه وأباه وجاره وحليفه؛ فكأنه قتل نفسه، ومنه «قوله: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: 191] أي: قتلوا منكم بعضكم الذين هم كأنفسكم.

وقال بعض أهل المعاني: معنى (فاقتلوا أنفسكم) أي: استسلموا للقتل، فجعل استسلامهم للقتل قتلًا منهم لأنفسهم على التوسع، فعلى هذا لا تحتاج إلى تأويل الأنفس"، انتهى من "التفسير البسيط" (2/ 536-537).

وقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) النور/61، مثل قوله: (‌فَاقْتُلُوا ‌أَنْفُسَكُمْ) البقرة/54.

قال "أبو حفص النسفي": "ومعناه: فليَقتل بعضُكم بعضًا؛ لأنَّ المؤمنين إخوةٌ، وأخو الرَّجلِ كأنَّه نفسُه، وهو كقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29]، وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11]، وقولِه تعالى: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [النور: 12]، وقولِه تعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61].

وقيل: معناه: استسلِموا للقَتل، ومكِّنوا القاتلَ مِن أنفُسِكم، وهو في معنى فعلِهِ بنفسِهِ، وهذا قول محمد بن إسحاق"، انتهى من"التيسير في التفسير" (2/ 184-185).

وفي بيان بديع لهذه القضية، يقول "الراغب": "وقد طعن في هذه الآية بعض الملحدة، وزعم أن قتل النفس مستقبح في العقل، وهذا الجاهل إنما استقبحه لكونه جاهلًا أن لنفوسنا خالقًا بأمره نستبقيها وبأمره نفنيها، وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو معادًا إلى دار فيها حياة سرمدية كما قال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ، وإن قتلها بأمره يوصله إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه ووال على بلد يسوسه، وأنه مهما استرده يعاد = فلا فرق بين أن يأمره بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه.

ومن تصور هذه الجملة، علم أن الإنسان إنما أنكر له قتل نفسه في الدنيا، لأنه كالراجع عن الثغر إلى حضرة صاحبه قبل استرداده، وإذا أمره أن يقتل نفسه، فقد رجع عنه بأمره. وذلك ظاهر لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما وقوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ الإشارة به إلى التوبة وقتل النفس.

ولما كان الشيء قد يكون خيرًا عند الاعتبار بالدنيا شرًّا عند الاعتبار بالآخرة، وقد يكون على عكس ذلك، بين تعالى بقوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ أن ذلك خير بالاعتبار بالأمور الإلهية"، انتهى من "تفسير الراغب الأصفهاني" (1/ 193-194).

ثالثًا:

وحتى إن تنزلنا معك في القول، وكان معنى الآية: ليقتل كل واحد نفسه، فإن ذلك كان في شريعتهم، أو في ذلك الوقت بخصوصه، لا في كل الأوقات، وقد جاءت شريعتنا بخلاف ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد قال لبني إسرائيل: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ‌فَاقْتُلُوا ‌أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ). أي ليَقْتُل بعضكم بعضًا. فألقَى عليهم ظلمة، حتى جَعَلَ الذين لم يعبدوا العِجْل يقتلون الذين عَبَدوه.

فهذا الذي كان في شرعِ مَن قبلَنا من أَمْرِهِ بقَتْل بعضهم بعضًا، قد عَوَّضَنا الله بخيرٍ منه وأنفع؛ وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوَّهم، وتعريضهم أنفسهم لأن يُقتلوا في سبيله بأيدي عدوِّهم لا بأيدي بعضهم بعضًا، وذلك أعظم درجة وأكثر أجرًا"، انتهى من "جامع المسائل" (5/315).

وأما نفس الانتحار في شريعتنا: فهو كبيرة من الكبائر. ومثل ذلك قتل المسلم؛ فإنه كبيرة أخرى، لا مدخل لذلك بباب التوبة؛ فهذا الذي سوله لك الشيطان، إنما هو كحال المستجير من الرمضاء بالنار، هداك الله وبصرك.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومَن تحسَّى سمًّا فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها [أي يطعن] في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا) البخاري (5442)، مسلم (109).

وانظر في حكم الانتحار، الجواب رقم: (111938).

والحاصل:

أن الانتحار وقتل النفس كبيرة، والظن أن فيه توبة للعبد: هو ضلال مبين، وتسويل عظيم من الشيطان الرجيم، فتب إلى ربك من ذلك كله، يا عبد الله، وأصلح ما بينك وبين ربك، واستقبل أمرك بتوبة نصوح. واستعن بالله ولا تعجز، واسأله أن يتوب عليك، ويجعل لك فرجا ومخرجا.

والله أعلم.

تفسير القرآن أحكام التوبة
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب