الجواب عن ضرب عمر بن الخطاب لأبي هريرة في حديث النعلين

27-09-2021

السؤال 345885

في حديث في مسلم لأبي هريرة رضي الله عنه جزئية منه وقع في نفسي منها شيء على سيدنا عمر، والحديث : "كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا"... يا أبا هريرة (وأعطاني نعليه) قال:(اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هٰذا الحائط يشهد أن لا إلٰه إلا الله، مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة)، فكان أول من لقيت عمر.... فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لإستي، فقال: ارجع يا أباهريرة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهشت بالبكاء، وركبني عمر، فإذا هو على أثري، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالك يا أبا هريرة؟) قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة، خررت لإستي، قال: ارجع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، بشره بالجنة؟ قال: نعم قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم. رواه مسلم السؤال: عند (فضرب عمر بين ثديي..) سيدنا عمر ضرب أبا هريرة ضربة موجعة في مكان قاتل أحيانا، سبب وقوع أبي هريرة على الأرض، وإجهاشه بالبكاء لإحساسه بالظلم والإهانة، كيف فعل عمر ذلك، ألا يدل ذلك على عدم الاحترام، وعلى ظلم لم يندم عليه كعادته؟ هل لو كان أبو بكر موضع أبي هريرة أكان عمر ليفعل ما فعل؟ أراه مستحيلا، إذن السبب بوضوح عدم احترام. ثم إن أبا هريرة وهو عائد للنبي مجهش بالبكاء، اشتكى للنبي ما فعله عمر فلم يقل شيئا، بعكس حالات أخرى مثل عندما قال: (إنك امرؤ فيك جاهلية) فلم لم ينصفه النبي؟ فما جوابكم على هذه الشبهة عن عدم احترام عمر رضي الله عنه أو بعض الصحابة لأبي هريرة؟

ملخص الجواب:

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديدا في دين الله، قويا في إقامته، لا تأخذه في الله لومة لائم، مجتهدا مُحدثَا مُلْهما، ينزل الوحي يؤيده، ينطق الحق على لسانه وقلبه، ما سلك فجا إلا وسلك الشيطان فجا غيره، يقدره النبي صلى الله عليه وسلم ويعرف له حقه وقدره، وهو مع ذلك لا يتصرف بالهوى، وما فعله مع أبي هريرة رضي الله عنه كان اجتهادا أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يدفعه إيذاءً له، ولم يوقعه قصدا، وإنما أراد ألا يبشر الناس فيتكلوا، ومواقفه المشابهة مع الصحابة كانت كلها من هذا القبيل، وعلاقته مع أبي هريرة علاقة حب واحترام وتقدير متبادل، فرضي الله عنهم أجمعين.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير هذه الأمة 

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خير هذه الأمة علما وعملا وحالا، أدبهم نبينا صلى الله عليه وسلم وزكاهم، فكانوا كما وصفهم الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ الفتح/29.

وكانت علاقتهم فيما بينهم يسودها الودُّ والاحترام والتقدير، وقلوبهم لا تحمل غلا ولا بغضا. 

إلا أنهم كانوا يقدمون الدين ومحبته ونصرته على كل شيء، فيغضبون لله لا لأنفسهم ولا لأهوائهم.

ومحبة الصحابة رضوان الله عليهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم من علامة النفاق، وسبهم فسوق، ورميهم بالقبائح دليل خذلان.

فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو فاروق هذه الأمة، وهو أفضل هذه الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه، وهو خير من أبي هريرة، ومن جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر، وكلهم خيار، أنجم زواهر، رضوان الله عليهم جميعا. 

وقد أعطى الله عمر الفاروق رضي الله عنه خصائص، لم يشاركه فيها غيره:

الأولى: أنه كان عظيم الديانة والعلم، ينطق الحق على لسانه وقلبه، مُحدَّث ملهم، ينطق الوحي على لسانه.

فقد أخرج البخاري في "صحيحه" (82)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ،قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: العِلْمَ .

وأخرج البخاري في "صحيحه" (23)، ومسلم في "صحيحه" (2390)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ.. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الدِّينَ .

وأخرج البخاري في "صحيحه" (3469)، ومسلم في "صحيحه" (2398)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ.

وأخرج الترمذي في "سننه" (3682)، من حديث ابن عمر،، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ .

والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (2908).

وأخرج البخاري في "صحيحه" (402)، ومسلم (2399)، من حديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)البقرة/125، وَآيَةُ الحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ)، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ".

قال ابن هبيرة في "الإفصاح" (1/134): " في هذا الحديث من الفقه أن عمر رضي الله عنه كان جدًا كله ليس بذي هزل ؛ فلذلك أجرى الله على لسانه من الحق الذي لا ينزل القرآن إلا به، وكل ذلك ليس له في شيء منه هوى، بل توخى الأصوب فالأصوب، والأحوط فالأحوط والأحسن فالأحسن، كقوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وقوله: (إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن)، وقوله في الغيرة على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصحه له: (عسى ربه إن طلقكن)، وهذه المعاني إنما ذكرها عمر عن نفسه قاصدًا بذلك- والعلم عند الله- لمعنيين: أحدهما، ليحسن ظن السامعين به لقوله: (فلا ينازعوه في حق يقوله) ؛ والآخرة أن يقتدي به المؤمنون لإيثاره الحق وقوله الصواب، فإن الله تعالى يقضي بالحق ويقوله، فمن أراد أن يوافق ربه دائمًا فليكن قوله الحق وعمله الحق فإن الله سبحانه ويقول الحق، ومن ذلك قوله تعالى عن الملائكة: ماذا قال ربكم، قالو: الحق ، وكذلك في إشارته إلى ما أشار إليه في أسارى بدر ؛ فإن الوقت كان وقت إثخان وشدة وقوة عزم في ذات الله سبحانه وتعالى فلذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب)انتهى.

الثانية: أنه كان أشدهم في دين الله، وأقواهم صلابة وعزما.

فقد روى الترمذي في "سننه" (3790)، من حديث أنس، رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللهِ عُمَرُ.. .

والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1224).

وقد جاءت المواقف العديدة التي تبين ذلك وتظهره، ومن ذلك:

ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (4992)، ومسلم في "صحيحه" (818)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: " سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ  فَقَرَأَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا عُمَرُ ، فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ .

قال ابن حجر في "فتح الباري" (9/25): " قَوْلُهُ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ أَيْ جَمَعْتُ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ عِنْدَ لَبَّتِهِ لِئَلَّا يَتَفَلَّتَ مِنِّي، وَكَانَ عُمَرُ شَدِيدًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، لِظَنِّهِ أَنَّ هِشَامًا خَالَفَ الصَّوَابَ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَالَ لَهُ أَرْسِلْهُ "انتهى.

وقال القرطبي في "المفهم" (2/447): " قوله: فلَبَّبتُهُ بردائه؛ أي: جمعت ثوبه على حَلقه، وأصله من اللّبة، وهي الثغرة التي في أسفل الحلق، وهذا من عمر - رضي الله عنه - غَيرةٌ على كتاب الله، وقوة في دينه "انتهى.

ومنها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (4795)، ومسلم في "صحيحه" (2170)، من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا ضُرِبَ الحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً لاَ تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ، أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ، قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ، وَإِنَّ العَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ، فَقَالَ:  إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ .

قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (7/57): " وفيه تنبيه أهل الفضل غيرهم على ما يكره منهم بقول عمر: قد عرفناك، وفيه فضل عمر، وصحة نظره، وصواب رأيه، حتى وافق الوحى والشرع في أمور كثيرة ؛ منها الحجاب وغيره" انتهى.

وقال ابن حجر في "فتح الباري" (1/250): "وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِعُمَرَ، وَفِيهِ جَوَازُ كَلَامِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ لِلضَّرُورَةِ، وَجَوَازُ الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ لِمَنْ يَقْصِدُ الْخَيْرَ، وَفِيهِ جَوَازُ وَعْظِ الرَّجُلِ أُمَّهُ فِي الدِّينِ لِأَنَّ سَوْدَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ "انتهى.

ومنها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (878)، ومسلم في "صحيحه" (845)، من حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: وَالوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ".

وقد ورد تسميته في رواية أبي هريرة في "صحيح مسلم" (845)، أنه عثمان بن عفان.

فهو هنا ينكر على عثمان بن عفان رضي الله عنه، على الملأ، مع عظيم فضل عثمان وسابقته في الإسلام، وما ذلك إلا لشدته وصلابته في دين الله تعالى.

قال النووي في "شرح مسلم" (6/134): " قَوْلُهُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ، قَالَهُ تَوْبِيخًا لَهُ، وَإِنْكَارًا لِتَأَخُّرِهِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. ففِيهِ تَفَقُّدُ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ وَأَمْرُهُمْ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَالْإِنْكَارُ عَلَى مُخَالِفِ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْكِبَارِ فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ "انتهى.

وقال ابن هبيرة في "الإفصاح" (1/101): " وفيه من الفقه جواز التأنيب للرجل الرفيع القدر، عند إخلاله بفعل الأفضل وتأخره عن الأولى، فإن عمر رضي الله عنه لم يقل لغير عثمان أية ساعة هذه؟ يعني أنه ليس مقامك في الإسلام ومنزلتك من الإيمان، بحيث يسبقك الكل إلى الفضيلة في التبكير إلى الجمعة حتى يفوتك البدنة والبقرة والشاة والدجاجة والبيضة، وينال ذلك غيرك ممن هو دونك، ولاسيما وأنت مقتدى بك، ومشار إلى علمك، فلم يكن يرى عمر إلا تقديم هذا التأنيب على فوت الفضيلة لمثل عثمان رضي الله عنه، وإن كان لا خلاف بين المسلمين في أن إتيان عثمان في ذلك الوقت مُجْزٍ عنه "انتهى.

وقال ابن حجر في "فتح الباري" (2/360): " وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: الْقِيَامُ فِي الْخُطْبَةِ وَعَلَى الْمِنْبَرِ وَتَفَقُّدُ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ، وَإِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ أَخَلَّ بِالْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمَحَلِّ، وَمُوَاجَهَتُهُ بِالْإِنْكَارِ، لِيَرْتَدِعَ مَنْ هُوَ دُونَهُ بِذَلِكَ "انتهى.

الثالثة: قوته في أمر الله، حتى ربما رأى فيها من رأى نوع غلظة وفظاظة ؛ إلا إنها كانت في دين الله تعالى لا للهوى.

فقد روى البخاري في "صحيحه" (3294)، من حديث سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: " اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الحِجَابَ  قَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِي وَلاَ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ .

قال العيني في "عمدة القاري" (15/181): " قَوْله: (أفظ وَأَغْلظ)، والفظاظة والغلظ بِمَعْنى وَاحِد، هِيَ عبارَة عَن شدَّة الْخلق وخشونة الْجَانِب " انتهى.

وقال ابن هبيرة في "الإفصاح" (1/331): " في هذا الحديث من الفقه: أن المؤمنين قد يكونون مختلفي الأحوال، ففيهم الرفيق وفيهم الشديد، وأن عمر رضي الله عنه كان قويًا شديدًا في الله عز وجل، وفيه أيضًا أن حالة الرفق التي لا تنزل إلى ضعف، فوق حال القوة التي تجاوز إلى عنف ؛ لأن حالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الحالات ". اهـ

وقال ابن حجر في "فتح الباري" (7/47): " قَوْلُهُ: (أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مِنَ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، وَيُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى " وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حولك "، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَظًّا وَلَا غَلِيظًا، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُودِ ذَلِكَ لَهُ صِفَةً لَازِمَةً فَلَا يَسْتَلْزِمُ مَا فِي الْحَدِيثِ ذَلِكَ بَلْ مُجَرَّدُ وُجُودِ الصِّفَةِ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ مَثَلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَفَظَّ هُنَا بِمَعْنَى الْفَظِّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلتَّصْرِيحِ بِالتَّرْجِيحِ الْمُقْتَضِي لِحَمْلِ أَفْعَلَ عَلَى بَابِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ إِلَّا فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَكَانَ عُمَرُ يُبَالِغُ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمَكْرُوهَاتِ مُطْلَقًا وَطَلَبِ الْمَنْدُوبَاتِ " انتهى.

ورحم الله ابن الجوزي حيث قال في "التبصرة" (1/377): " كان عمر رضي الله عنه جدا كله، وكان يَقْدَم على صاحب الشريعة، وينبسط، فيحتمله لعلمه بصحة قصده، فمن ذلك أنه أراد أن يصلي على ابن أُبي، فوقف في صدره وقال أتصلي عليه ؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأبي هريرة اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه فبشره بالجنة، فذهب فلقيه عمر، فأخبره الخبر فضرب بين ثدييه حتى خر وقال ارجع، فرجع، فقال يا رسول الله: إني أخشى أن يتكل الناس عليها ؛ فخلهم يعملون. قال: فخلهم "انتهى.

ثالثا:

هل ضرب عمر بن الخطاب أبا هريرة لكذبه على رسول الله ﷺ؟

أما بخصوص الواقعة التي ذكرها السائل بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبي هريرة رضي الله عنه، فيمكن الجواب عما أورده السائل فيها في عدة نقاط:

أولا: من ناحية الإسناد، الحديث صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه" (31)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: " كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا، وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا، وَفَزِعْنَا، فَقُمْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلْأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ، فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا؟ فَلَمْ أَجِدْ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ - وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ – فَاحْتَفَزْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا، فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا، فَفَزِعْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ، فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ  وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ، قَالَ: اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لِاسْتِي، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً، وَرَكِبَنِي عُمَرُ، فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟  قُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي، قَالَ: ارْجِعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  يَا عُمَرُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟  قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ، وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ، مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَخَلِّهِمْ .

ثانيا: الادعاء بأن عمر رضي الله عنه ضرب أبا هريرة في مكان قاتل قول لا نصيب له من الصحة مطلقا، فإنه إنما دفعه في صدره، ولم يقصد إيقاعه على الأرض أو إيذاءه، وإنما دفعه في صدره ليرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخبر الناس بهذه البشرى حتى لا يتكل الناس عليها، وكان هذا اجتهادا منه لعظيم علمه وحسن توفيق الله له، وهو ما أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأين الموضع القاتل الذي ضربه فيه!

قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (1/264): " قوله: " فضربني عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي ": أي سقطت على عجزي. وقال: ارجع.

الأولى: أن عمر لم يقصد بضربه في صدره إلا رده، والدفع في صدره، ليرجع كما قال له، لا ليؤذيه ويوقعه، وكان سقوطه من غير تعمد لذلك، بل لشدة الدفع، وليس فعل عمر ومراجعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اعتراضاً عليه، وردا لأمره؛ إذ ليس فيما وجّه به معاذ غير تطييب قلوب أمته وبشراهم، فرأى عمر أن كتم هذا عنهم أصلح لهم، وأذكى لأعمالهم، وأوفر لأجورهم ألا يتكلوا، وأنه أعود بالخير عليهم من مُعَجَّلةِ هذه البشرى، فلما عرض ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوَّبه له، وقد يكون رأى عمر للعموم، وأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للخصوص، وخشي عمر إن حصل في الخصوص أن يفشو ويتسع." انتهى.

قال النووي في "شرح مسلم" (1/238): " وَأَمَّا دَفْعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ سُقُوطَهُ وَإِيذَاءَهُ، بَلْ قَصَدَ رَدَّهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، وَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي زَجْرِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ...

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْإِمَامَ، وَالْكَبِيرَ مُطْلَقًا: إِذَا رَأَى شَيْئًا، وَرَأَى بَعْضُ أَتْبَاعِهِ خِلَافَهُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلتَّابِعِ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى الْمَتْبُوعِ، لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ مَا قَالَهُ التَّابِعُ هُوَ الصَّوَابُ، رَجَعَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا بَيَّنَ لِلتَّابِعِ جَوَابَ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ." انتهى. 

وينظر: "المفهم" للقرطبي (1/124).

رابعا:

الرد على ادعاء أن عمر بن الخطاب لم يكن يحترم أبا هريرة؟

ادعاء أن عمر رضي الله عنه لم يكن يحترم أبا هريرة قول باطل، بل إن العلاقة بينهما كانت علاقة حب واحترام وتوقير، ويدل على محبة عمر لأبي هريرة وتقديره له ما يلي:

أولا: ما رواه البخاري في "صحيحه" (5375)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَيَّ، فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنَ الجَهْدِ وَالجُوعِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ  فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذِي بِي، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ، فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: عُدْ يَا أَبَا هِرٍّ  فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ:عُدْ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالقِدْحِ، قَالَ: فَلَقِيتُ عُمَرَ، وَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِي، وَقُلْتُ لَهُ: فَوَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقْرَأْتُكَ الآيَةَ، وَلَأَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ، قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَأَنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ".

فهنا تأسف عمر على فواته ضيافة أبي هريرة، وودَّ أن لو كان أدخله بيته أحب إليه من أنفس أموال العرب، أترى هذه نفسية محب رحيم أم ماذا!

ثانيا: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما تولى الخلافة استعمل أبا هريرة على البحرين، ومعلوم أن عمر رضي الله عنه لم يكن يولي إلا من يرضى دينه.

فقد أخرج معمر بن راشد في "جامعه" (20659)، بإسناد صحيح، عن محمد بن سيرين: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ".

ثالثا: أن محبة أبي هريرة لعمر رضي الله عنه فهذا أمر أشهر من أن يذكر، ولعل أقل ما يدل عليه أن أبا هريرة رضي الله عنه نفسه روى أحاديث فضائل عمر رضي الله عنه، فهل لو كان بينهما شيء، أتراه ينقل هذه الأحاديث؟!

ومن هذه الأحاديث:

ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (7023)، ومسلم في "صحيحه" (2395)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِي فِي الجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، قُلْتُ: لِمَنْ هَذَا القَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغَارُ؟".

ومنها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (3469)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ .

ومنها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (3664)، ومسلم في "صحيحه" (2392)، من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَأَخَذَهَا ابْنُ الخَطَّابِ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ.

رابعا: هذا الفعل من عمر بن الخطاب رضي الله، لم يكن خاصا بأبي هريرة رضي الله عنه، حتى يقال أنه كان لا يحترم أبا هريرة، وإنما فعل عمر رضي الله عنه نفس الموقف مع جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فهو إنما يقصد الحق.

فقد أخرج ابن حبان في "صحيحه" (151)، من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: نَادِ فِي النَّاسِ: مَنْ قَالَ: لا إِلهَ إِلا اللهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ،  فَخَرَجَ فَلَقِيَهُ عُمَرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: أيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا وَكَذَا.

قَالَ: ارْجِعْ. فَأبَيْتُ، فَلَهَزَنِي لَهْزَةً، فِي صَدْرِي ألَمُهَا، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أجِدْ بُدّاً، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، بَعَثْتَ هذَا بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ:  نعَمْ ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ طَمِعُوا وَخَبُثُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-:  اقعد .

والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2355).

خامسا: لم يكن عمر الفاروق رضي الله عنه هو وحده من ضرب غيره في صدره، في مقام الاهتمام بأمر، أو الاحتفال به، أو نحو ذلك من المقامات. 

فهذا سيد ولد آدم، الرفيق الرحيم بأمته، يضرب في صدر صاحبه: 

روى مسلم في صحيحه (810) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟  قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ البقرة/255، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ .

أفكان النبي صلى الله عليه وسلم مهينا لأبي بن كعب بضربته في صدره؟!

وروى البخاري (3020) ومسلم (2476) – واللفظ للبخاري – عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ اليَمَانِيَةِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، قَالَ: وَكُنْتُ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا.

فانظر إلى هذه "الضربة" في صدر جرير رضي الله عنه، حتى رأى أثر أصابع النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة في صدره ؛ أي ضربة كانت هذه ؟ وهل كانت إهانة وظلما لجرير؟!

ما أجرأك على القول بلا علم، ولا روية يا عبد الله، وكان أجدر بك أن تخزن لسانك، وتمسك عن بعض قولك. 

فانظر، هداك الله، كيف ظلمت عمر، وكذبت عليه، فادعيت عليه أنه ضرب أبا هريرة في مكان يقتل – أحيانا -؛ وهذا دعوى كاذبة منك، وما سمعنا بهذا من أحد قبلك: أن مثل هذه اللكزة في الصدر: من شأنها أن تقتل!! 

خامسا:

ثم لم يزل بك الرأي الفاسد، والعقل الكاسد يستهويك، والشيطان يضلك، ويستزلك، حتى تورطت في المهلكة، ونزلت من القول في عمر، إلى سوء القول، وسوء الظن بنبي الله صلى الله عليه وسلم، حتى زعمت كذبا وزورا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينصف أبا هريرة، هي عثرة لا لعاً لها، وورطة من ورطات الأمور، خليق بك أن تراجع نفسك، وتتوب إلى رب العالمين، وأرحم الراحمين منها؛ ويلك، من يعدل، إن لم يعدل صلى الله عليه وسلم ؟! 

وقد استوضح من عمر عن فعلته فلم ير منه ظلما، ولا يقر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم أبدا، أفقال لك أبو هريرة: يا هذا، قد ظلمتُ ولم أُنْصَفْ، فتعال أنت من خلف القرون، واعدل في، إن لم يعدل السابقون، وأنصفني، إذا مضى ظلمي كل هذه القرون؟!

أمسك عليك لسانك يا عبد الله، ودع عنك التهاويل، والأكاذيب، وابك على خطيئتك أنت، ودع خطيئة غيرك، ما كانت، ومتى كانت؛ وخلاك ذم!!

وخلاصة ما سبق:

أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا في دين الله، قويا في إقامته، لا تأخذه في الله لومة لائم، مجتهدا مُحدثَا مُلْهما، ينزل الوحي يؤيده، ينطق الحق على لسانه وقلبه، ما سلك فجا إلا وسلك الشيطان فجا غيره، يقدره النبي صلى الله عليه وسلم ويعرف له حقه وقدره، وهو مع ذلك لا يتصرف بالهوى، وما فعله مع أبي هريرة رضي الله عنه كان اجتهادا أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يدفعه إيذاءً له، ولم يوقعه قصدا، وإنما أراد ألا يبشر الناس فيتكلوا، ومواقفه المشابهة مع الصحابة كانت كلها من هذا القبيل، وعلاقته مع أبي هريرة علاقة حب واحترام وتقدير متبادل، فرضي الله عنهم أجمعين.

والله أعلم.

شروح الأحاديث
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب