إذا نذر ما يمتنع شرعًا أو عادةً، فما الحكم؟

14-08-2024

السؤال 288395

هل معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين عدم الاستطاعة شرعا وعقلا وعادة؟

ملخص الجواب:

من نذر ما لا يطيقه، لم ينعقد نذره. سواء كان لا يطيقه: شرعا، أو عقلا، أو عادة، وفي وجوب الكفارة خلاف بين العلماء.

الجواب

الحمد لله.

أولاً:

هذا الحديث أخرجه أبو داود (3322) من طريق طلحة بن يحيى الأنصارى عن عبد الله بن سعيد بن أبى هند عن بكير عن عبد الله بن الأشج عن كريب عن ابن عباس  أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قال: من نذر نذْراً لم يُسمِّه فكفارتُه كفارةُ يمين، ومن نذر نذراً في معصيةٍ فكفارتُه كفارةُ يمينٍ، ومن نذر نذْراً لا يُطيقُه فكفارتُه كفارةُ يمينٍ، ومن نذر نذراً أطاقه فليف به .

وقال أبو داود: " روى هذا الحديثَ وكيعٌ وغيرُه، عن عبد الله بن سعيد بن أبى هند، فوقفوه على ابن عباس".

والموقوف الذي أشار إليه أبو داود: أخرجه ابن أبى شيبة في "المصنف" (4/173) عن وكيع به.

قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: "وإسنادُه صحيح؛ إلا أنَّ الحفّاظ رجَّحوا وَقْفَهُ."انتهى، من "بلوغ المرام"، حديث رقم (1371).

وقال الشيخ الألباني رحمه الله :

"وهذا أصح , فإن طلحة بن يحيى الأنصاري، مع ثقته، وإخراج الشيخين له : فإن فيه ضعفا , وفى "التقريب" : "صدوق يهم" .

فمثله لا يحتج به مع مخالفة وكيع إياه وغيرِه، كما قال أبو داود.

فالصواب في الحديث: وقفه على ابن عباس. والله أعلم" انتهى من "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (8/ 211) .

والحاصل:

أن الحديث صحيح عن ابن عباس ، ولم يثبت مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وينظر للفائدة: "التلخيص الحبير" (4/427-429)، "التبيان في تخريج بلوغ المرام" (11/155). 

ثانياً:

من نذر معصيةً، كأن يشرب خمرا إذا نجح مثلا، أو نحو ذلك مما فيه معصية لله: فهو ممنوع من الوفاء به شرعا. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ  رواه البخاري (6696).

وقد يقال في نذر المعصية: إن هذا هو الذي لا "يملك العبد" الوفاء به، شرعا، أو يقال فيه: "مستحيل شرعا"؛ يعني: أن الشرع قد حال بينه وبين الوفاء به.

وليس على العبد؛ ولا له أن يوفي بهذا النوع من النذر.

وينظر جواب الحديث رقم: (21833).

وأما من نذر أمرا مستحيلا في العقل، كمن نذر اليوم، أن يصوم أمس؛ فهذا يحكم العقل باستحالته؛ وهو أشبه بأن يكون لغوا من القول.

وكذلك من نذر أمرا مستحيلا في "العادة"، كمن نذر أن يطير في الهواء، بنفسه، بلا آلة، ونحو ذلك؛ فهذا، وإن كان يتصوره العقل، ولا يحيله؛ إلا أن العادة تحكم بامتناعه.

قال المرداوي رحمه الله في "الإنصاف" (11/118) :

" قَوْلُهُ: ( وَلَا يَصِحُّ فِي مُحَالٍ وَلَا وَاجِبٍ ، فَلَوْ قَالَ " لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ، أَوْ صَوْمُ رَمَضَانَ " لَمْ يَنْعَقِدْ ): لَا يَصِحُّ النَّذْرُ فِي مُحَالٍ وَلَا وَاجِبٍ ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ " انتهى.

ويجري في كلام الفقهاء – كثيرا- : عدم التفريق بين الأمرين؛ بناء على أنه لا فرق في الحكم الشرعي بينهما؛ فكلاهما لا يلزم الوفاء به، وعلى من نذر ذلك كفارة يمين.

قال الصنعاني، رحمه الله: "أما النذرُ الذي لم يسمَّ كأنْ يقولُ للَّهِ عليَّ ‌نذْرٌ. فقالَ كثيرٌ منَ العلماءِ: في ذلكَ كفارةُ يمينٍ لا غيرُ. وعليهِ دلَّ حديثُ عقبةَ، وحديثُ ابن عباسٍ.

وأما النذرُ بالمعصيةِ: فكفارتُه كفارةُ يمينٍ كما صرَّحَ بهِ الحديثُ، سواءٌ فعلَ المعصيةَ أمْ لا.

وكذلكَ مَنْ ‌نذرَ نذْرًا ‌لا ‌يطيقُه ‌عقلًا، ولا شرْعًا؛ كطلوعِ السماءِ، وحجتينِ في عامٍ: فلا ينعقدُ، ويلزم كفارةُ يمينٍ.

وعندَ الشافعيِّ ومالكٍ وداودَ وجماهيرِ العلماءِ لا تلزُمه الكفارةُ". انتهى، من "سبل السلام شرح بلوغ المرام" (8/ 35).

ومن الفقهاء من يحرر الفرق بين هذه الصور، لا سيما على مذهب من يرى عدم وجوب الكفارة في نذر المعصية، وما لا يملكه ابن آدم.

ومن ذلك أيضا: تقريرهم ما يوجب الحنث في "باب الأيمان"؛ إذا علق يمينه على مستحيل شرعا، أو عادة، والأيمان والنذور: بابهما واحد.

فلو علق يمينه على: مستحيل شرعا، كنسخ صوم رمضان، أو ‌عادة، كصعود السماء، أو عقلا كالجمع بين الضدين= فإنه لا يقع، وإن وجدت الصفة، كالصعود مثلا على المعتمد ...".

انظر: "حاشية قليوبي وعميرة" (3/352).

وقد حرر الإمام شهاب الدين القرافي، رحمه الله، هذه القاعدة، والفرق في اختلاف مأخذ الحكم، وأشار إلى الخلاف فيها. قال رحمه الله:

" (الفرق الرابع والثلاثون والمائة بين قاعدة تعذر المحلوف عليه عقلا وبين قاعدة تعذره عادة أو شرعا).

اعلم أنه إذا حلف ليفعلن كذا، وتعذر الفعل عقلا: لم يحنث، إذا لم يمكنه الفعل قبل ذلك.

فإن أمكنه، ثم تعذر: حنث.

والفرق بين التعذر العقلي وغيره: أن الناس إنما يقصدون بأيمانهم الحثَّ على الفعل الممكن لهم. أما المتعذر عقلا فلم يوضع اللفظ في القسم حاثا عليه.

فلذلك: المتعذر عقلا لا يوجب حنثا؛ لأن الحلف على الشيء مشروط بإمكانه، وفوات الشرط يقتضي عدم المشروط، فلا يبقى الفعل محلوفا عليه، فلا يضره عدم فعله.

أما التعذر العادي أو الشرعي، الذي يكون الفعل معه ممكنا عادة: فهذا مندرج في اليمين، عملا بظاهر اللفظ، فإن الحلف اقتضى الفعل في جميع الأحوال؛ إلا ما دل الدليل على إخراجه.

وقيل: المتعذرات كلها سواء..."

وفي الفرق عدةُ مسائل:

(المسألة الأولى): إذا حلف ليذبحن الحمامة، فقام مكانه فوجدها ميتة؟

قال ابن القاسم والشافعي: لا حِنث عليه.

بخلاف: لو حلف ليبيعن أمته، فيجدها حاملا؟

عند ابن القاسم: يحنث؛ لأن المانع شرعي.

وسوى بينهما سحنون، في عدم الحنث.

قال مالك: الحالف ليضربن امرأته إلى سنة، فتموت قبل السنة: لم يحنث بموتها، وهو على بر.

قال عبد الحق في تهذيب الطالب: إن حلف ليركبن الدابة، فتسرق؟

يحنث، عند ابن القاسم؛ لأن الفعل ممكن عادة، وإنما منعه السارق. بخلاف موت الحمام.

وقال أشهب: لا يحنث؛ لأنه متعذر بسبب السرقة.

فإن ماتت قبل التمكن: بَرَّ؛ لتعذر الفعل عقلا.

ومنع الغاصب، والمستحق= كالسارق.

وإن حلف ليضربن عبده، فكاتبه، أو ليبيعن أمته، فوجدها حاملا؟

يحنث؛ لأن المانع شرعي، والفعل ممكن.

وقال سحنون: لا يحنث؛ لأنه متعذر.

وإن حلف لَيطأها، فوجدها حائضا؟

يُخَرَّج الحِنثُ على الخلاف ...

(تنبيه):  ومعنى قول الأصحاب: الفعل متعذر عقلا؛ يريدون: أن فعله من خوارق العادات. وإلا؛ فيمكن عقلا أن الله تعالى يحيي الحمام والحيوان، حتى يتأتى فيه أفعال الأحياء، لكن ذلك خارق للعادة.

بخلاف السارق ونحوه؛ لا يقال إن الفعل مستحيل عادة، فإن من الممكن عادة القدرة على السارق والغاصب، ويفعل ما حلف عليه.

فهذا تحرير القاعدتين والفرق بينهما". انتهى من "الفروق" (3/85-86).

والحاصل:

أن من نذر ما لا يطيقه، لم ينعقد نذره. سواء كان لا يطيقه: شرعا، أو عقلا، أو عادة.

واختلف العلماء: هل يلزمه كفارة عن نذره ذلك؟

والحديث المذكور: دليل لمن قال بلزوم الكفارة.  

والله أعلم.

الأيمان والنذور
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب