السبت 23 ذو الحجة 1445 - 29 يونيو 2024
العربية

هل يجوز السؤال عن الله بـ (أين)؟

514823

تاريخ النشر : 26-06-2024

المشاهدات : 441

السؤال

قال البيهقي في "كتاب الاعتقاد" ص١١٧: "وَفِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ بِاسْتِوَاءِ اعْتِدَالٍ عَنِ اعْوِجَاجٍ وَلَا اسْتِقْرَارٍ فِي مَكَانٍ، وَلَا مُمَّاسَّةٍ لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَكِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِلَا كَيْفٍ بِلَا أَيْنَ"، فما الذي قصده البيهقي بقوله: "بلا أين؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

البيهقي جرى هنا على ما هو شائع عند المتكلمين من أن الله تعالى لا يسأل عنه بأين؟ ويعللون ذلك بأنه منزه عن المكان، أو أن هذا السؤال إنما يكون في حق الأجسام.

والحق الذي دل عليه النص: هو جواز السؤال عنه بأين.

وأما المكان: فهو منزه تعالى عن مكان وجودي يكون فيه، بحيث يحدُّه أو يحصره؛ بل هو فوق الأمكنة كلها، فوق سماواته، على عرشه، كما نطق به الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة.

وقد دل على جواز السؤال عن الله بأين: حديث الجارية.

روى مسلم (537) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ في شأن ضربه لجاريته، قال: "فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: (ائْتِنِي بِهَا). فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ؟) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: (مَنْ أَنَا؟) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ).

قال الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله: " ومن أجهلُ جهلاً، وأسخفُ عقلاً، وأضل سبيلاً؛ ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله؛ بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله: (أين الله)؟! " انتهى من "الاقتصاد في الاعتقاد"، ص 89

وقال الذهبي رحمه الله في "العلو" ص 28: " وهكذا رأينا كل من يُسأل: أين الله؟ يبادر بفطرته ويقول: في السماء.

ففي الخبر مسألتان:

إحداهما: شرعية: قول المسلم أين الله؟

وثانيهما: قول المسؤول: في السماء.

فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم" انتهى.

ثانيا:

البيهقي يثبت الاستواء، ويقرر فيه التفويض، وينفي الجهة والمكان.

قال الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود: "وفي مناسبة أخرى لما ذكر البيهقي حديث الجارية: أين الله؟ قالت في السماء؛ تكلم في تأويله بكلام عجيب، وأوّله بما يدل على أنه لا يقول بإثبات العلو لله تعالى" انتهى من "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (2/ 588).

وأشار إلى هذا الموضع من كتاب الاعتقاد.

وقال الدكتور أحمد بن عطية الغامدي في كتابه "البيهيقي وموقفه من الإلهيات":

" وهذا الأمر - يعني إثبات الجهة لله تبارك وتعالى - قد نفاه البيهقي رحمه الله.

ذلك أنه حينما اختار القول بالتفويض في صفة الاستواء، فوقف على اللفظ كما ورد به النص، دون أن يتجاوز ذلك إلى تفسيره بالنسبة لله تبارك وتعالى - لأن ذلك في نظره من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله - أتى إلى الجهة الثابتة لله تبارك وتعالى ثبوتاً قطعياً، فنفاها.

وهاتان المسألتان - أعني الجهة والاستواء - بينهما صلة وثيقة لأن الجهة لازمة للاستواء.

يقوله - رحمه الله - مبيناً مذهبه في عدم إثبات جهة لله تبارك وتعالى: " ... لكنه مستو على عرشه كما أخبره، بلا كيف، بلا أين".

بمعنى أن الاستواء ثابت لله تبارك وتعالى خبراً، إلا أنه لا ينبغي لنا البحث عن معناه، لأن ذلك بحث في الكيف، كما أن الإشارة إليه بأين تؤدي إلى إثبات الجهة، ولا جهة له، لأننا إنما أثبتنا الاستواء، لورود الخبر به، فأثبتناه لفظاً، مفوضين في المراد منه.

ويقول في موضع آخر: " ... فإنه عز وجل لا يُرى في جهة، كما يُرى المخلوق ... وهو يتعالى عن جهة".

وهذا تصريح بنفي الجهة".

إلى أن قال:

" كما علّق البيهقي على قول آخر لابن المبارك يثبت الاستواء والفوقية لله تبارك وتعالى، وهو قوله: "نعرف ربّنا فوق سبع سموات على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية إنه ههنا - وأشار إلى الأرض".

علّق عليه البيهقي بقوله: "قلت: قوله: بائن من خلقه، يريد به ما فسره بعده من نفي قول الجهمية، لا إثبات جهة من جانب آخر، يريد ما أطلقه الشرع".

فكلّ ما تقدم يدلّ على نفي البيهقي للجهة، بل صريح في ذلك.

أما النصوص الواردة بإثباتها، فقد عمد البيهقي - رحمه الله - إلى تأويلها، كقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، وقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ، وقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ = أوّلها بأنها محمولة على ما ورد في آيات الاستواء، فيكون المعنى في الجميع: مَنْ على العرش.

إلا أن إثباته أن الله على العرش: إنما هو لموافقة الدليل المصرِّح بذلك، مثل قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى؛ وهو أمر أثبته البيهقي لفطاً فقط، وفوَّض في معناه؛ فيكون موقفه فيما أوّله على منوالها: التفويض أيضاً؛ لأن الإحالة على معنىً مفوَّض فيه: تفويضٌ كذلك.

وهذا كما هو ظاهر تحكم لا دليل عليه، وقد سبق أن بينت بطلان كون مذهب السلف التفويض.

كما أول قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ: بأن صعود الكلم الطيب والصدقة الطيبة إلى السماء: عبارةٌ عن حُسْن القبول لهما، وأوّل عروج الملائكة الوارد في قوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ؛ بأن المراد عروجُهم إلى مقامهم في السماء.

إلا أن إثبات العلوّ والفوقيّة لله تبارك وتعالى: تواترت به الأدلة العقلية والنقلية.

ومن أبرز الأدلة التي تدل على أن الله في السماء عال على عرشه الذي هو أعلى مخلوقاته سبحانه حديث الجارية، الذي ذكره البيهقي، وأعله بالاضطراب" انتهى من "البيهقي وموقفه من الإلهيات"، ص 347-352

والحاصل:

أن نفي البيهقي السؤالَ عن الله بـ(أين): منسجم مع مذهبه الكلامي؛ في نفي الجهة، وتفويضه للاستواء والعلو.

وهو مخالف لما ثبت في السنة الصحيحة من إثبات السؤال عن الله بـ(أين).

ومخالف لما ثبت عن السلف من تفسير الاستواء بالعلو الارتفاع والجلوس والقعود.

ومخالفهم لإجماعهم على إثبات جهة الفوق.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب