السبت 18 شوّال 1445 - 27 ابريل 2024
العربية

كيف نجمع بين كون الأنبياء أشد الناس بلاء وقوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)؟

428759

تاريخ النشر : 29-01-2024

المشاهدات : 1538

السؤال

ما وجه الجمع بين حديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء)، وقول الله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)، أى من المعاصي كما قال المفسرون؟

الجواب

الحمد لله.

أولاً:

ما يظهر من التعارض في النصوص الخبرية والنصوص المحكمة إنما هو في الظاهر لا في الباطن وحقيقة الأمر، وإذا وُجد هذا التعارض في الظاهر، فهناك قواعد لأهل العلم يتعاملون بواسطتها مع هذه النصوص، بحيث يتم إزالة هذا التعارض.

قال ابن حزم رحمه الله: " إذا تعارض الحديثان، أو الآيتان، أو الآية والحديث، فيما يَظنُّ من لا يَعْلَم، ففرضٌ على كلِّ مسلمٍ استعمالُ كلِّ ذلك، لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض، ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله، ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها، وكلٌّ من عند الله عز وجل، وكلٌّ سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق ". انتهى من "الإحكام في أصول الأحكام" (2/ 21).

وقال الشيخ عبد الوهاب خلّاف رحمه الله: "فإن وجد نصان ظاهرهما التعارض: وجب الاجتهاد في صرفهما عن هذا الظاهر، والوقوف على حقيقة المراد منهما، تنزيهاً للشارع العليم الحكيم عن التناقض في تشريعه، فإن أمكن إزالة التعارض الظاهري بين النصين بالجمع والتوفيق بينهما، جُمع بينهما وعُمل بهما، وكان هذا بياناً، لأنه لا تعارض في الحقيقة بينهما ". انتهى، "علم أصول الفقه" (ص :230).

ثانياً:

لا بد أن تعلم أيها السائل الكريم أن أمر المؤمن كله خير، فعَنْ ‌صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :عَجَبًا ‌لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، " رواه مسلم " : (2999).

قال ابن القيم : " ابتلاء المؤمن كالدّواء له، يَستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصَت ثوابه، وأنزلت درجته ، فيستخرج الابتلاءُ ‌والامتحانُ ‌منه ‌تلك ‌الأدواء ، ويستعدُّ به لتمام الأجر وعلوّ المنزلة .

ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( والذي نفسي بيده لا يَقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له ، وليس ذلك إلا للمؤمن ، إن أصابته سَرّاءُ شكر فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له ).

فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزِّه وعافيته، ولهذا كان أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءَ، ثم الأقرب إليهم فالأقرب ، يُبتلى المرءُ على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة شُدّد عليه البلا ء، وإن كان في دينه رِقَّة خُفِّف عنه ، ولا يزال البلاء بالمؤمن، حتى يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة" ، انتهى، من " إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان " (2/ 935).

ثالثا:

التعارض الظاهر بين الآية الكريمة الذي ذكرت، ونص الحديث الصحيح المذكور في السؤال، له توجيهان:

الأول: أنّ نص الآية عام في كل المصائب، وقد ورد ما يخصص هذه العموم باستثناء المصائب التي تصيب الأنبياء والصالحين؛ فتكون مصائبهم لرفعة الدرجات لا عقوبة، ولا لتكفير السيئات كما في الحديث، والنص العام قد يأتي تخصيصه بنص آخر، وهذا له نظائر في نصوص الأخبار والأحكام.

قال الألوسي، رحمه الله: "والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم؛ فإن من لا ذنب له، كالأنبياء عليهم السلام، قد تصيبهم مصائب. ففي الحديث: ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل )؛ ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا" انتهى، من "تفسير الألوسي" (13/41).

وقال الطاهر ابن عاشور رحمه الله : "‌ وقد ‌تصيب ‌الصالحين ‌نكبات ‌ومصائب ‌وآلام، فتكون بلوى، وزيادة في الأجر، ولما لا يعلمه إلا الله.

وقد تصيب المسرفين خيرات ونعم إمهالًا واستدراجًا ولأسباب غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله وهو أعلم بخفايا خلقه ونواياهم ومقادير أعمالهم من حسنات وسيئات ، واستعداد نفوسهم وعقولهم لمختلف مصادر الخير والشر " ، انتهى، من " التحرير والتنوير " (25/ 102).

وعلى ذلك يقال: إن المصائب إذا كانت تصيب عامة الناس، لذنوب أصابوها، أراد الله برحمته أن يمحصهم منها؛ فقد تصيب من تصيب من الأنبياء والصالحين، لا لتكفير سيئات عليهم، وإنما لرفعة درجاتهم عند رب العالمين.

ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ).

رواه أبو داود (3090) ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/2599)

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال :

( قَالَ : إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ) .

رواه الترمذي (2396) وحسنه ، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/146)

وقد جُمع السببان في حديث عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً رواه البخاري (5641) ، ومسلم (2573) .

وقد رافق البلاء الأنبياء والصالحين فلم يغادرهم ، جعله الله تعالى مكرمة لهم ينالون به الدرجة العالية في الجنة . وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  إِنَّا كَذَلِكَ، يَشْتَدُّ عَلَيْنَا ‌الْبَلَاءُ، وَيُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ   رواه البخاري في "الأدب المفرد" (510)، وغيره، وصححه الألباني.

انظر الجواب رقم : (112905).

وهذا كله، على القول بـ"عصمة الأنبياء" عليهم السلام، من الذنوب كلها، صغيرها وكبيرها.

وأما على القول الآخر، وهو المنقول عن جمهور أهل السنة والسلف: أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر؛ فلا إشكال بين الآية والحديث.

وعلى ذلك: يقال في بيان ذلك: إن البلاء إن صادف صغيرة، كان كفارة لها؛ وإلا، كان رفعة في درجة النبي، وزيادة في أجره.

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (304498)، ورقم: (311316).

الثاني: أنّ الحديث في البلاء، وليس كل بلاء مصيبة، فقد يكون البلاء مصيبة وقد لا يكون كذلك.

وقد نبهنا في جواب سابق على أن البلاء في الحديث عام ، يشمل كل أنواع البلاء ، فيشمل الابتلاء بالسراء والضراء، ويشمل الابتلاء بالحروب والفتن والاضطرابات ، ويشمل الابتلاء بتولي المسؤوليات ، كما يشمل الابتلاء بكثرة الفرق والبدع والضلالات ، وكثرة الشهوات والفجور، وانتشار الفساد في الأرض، ونحو ذلك .

وليس البلاء مقصورا على المرض أو الفقر أو نحو ذلك ، قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ  الأنبياء/ 35 .

قال ابن كثير رحمه الله :" أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تَارَةً ، وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى، لِنَنْظُرَ مَنْ يَشْكُرُ وَمَنْ يَكْفُرُ، وَمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَقْنَطُ ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَة َ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَنَبْلُوكُمْ) ، يَقُولُ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ " .انتهى من " تفسير ابن كثير" (5/ 342) . 

وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :

إذا ابتلي أحد بمرض أو بلاء سيئ في النفس أو المال ، فكيف يعرف أن ذلك الابتلاء امتحان أو غضب من عند الله ؟

فأجاب:

" الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء ، وبالشدة والرخاء ، وقد يبتليهم بها لرفع درجاتهم وإعلاء ذكرهم ومضاعفة حسناتهم ، كما يفعل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والصلحاء من عباد الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس ‌بلاء ‌الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل) ، وتارة يفعل ذلك سبحانه بسبب المعاصي والذنوب ، فتكون العقوبة معجلة كما قال سبحانه : (وما أصابكم من مصيبة فبما ‌كسبت ‌أيديكم ويعفو عن كثير) ، فالغالب على الإنسان التقصير وعدم القيام بالواجب ، فما أصابه فهو بسبب ذنوبه وتقصيره بأمر الله ، فإذا ابتلي أحد من عباد الله الصالحين بشيء من الأمراض أو نحوها فإن هذا يكون من جنس ابتلاء الأنبياء والرسل رفعاً في الدرجات ، وتعظيماً للأجور ، وليكون قدوة لغيره في الصبر والاحتساب.

فالحاصل :

أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات ، وإعظام الأجور ، كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار ، وقد يكون لتكفير السيئات كما في قوله تعالى: (من يعمل سوءً يُجز به) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:  ما أصاب المسلم من همٍّ ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى إلا كفَّر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها ، وقوله صلى الله عليه وسلم:  من يرد الله به خيراً يُصِب منه ، وقد يكون ذلك عقوبة معجلة بسبب المعاصي وعدم المبادرة للتوبة كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة خرجه الترمذي وحسنه " انتهى . " مجموع فتاوى ومقالات " (4/370).

وينظر: جواب السؤال رقم: (224161)، ورقم: (204615 )، ورقم: (477593).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب