الاثنين 27 شوّال 1445 - 6 مايو 2024
العربية

كيف يكون إرسال الرسل حجة على الناس رغم أن الهداية من الله؟

322981

تاريخ النشر : 04-04-2024

المشاهدات : 1791

السؤال

أرغب في معرفة كيفية التوفيق بين أن الحكمة من إرسال الرسل أن يكونوا حجة على الناس، وبين حقيقة أن الهداية تكون من الله، كما في الآيتين: قال تعالى: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، و (رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

الهدى والضلال ومراتبهما : قلب أبواب القدر ومسائله؛ فإن أفضل ما يقدِّر الله لعبده وأجلّ ما يقسمه له: الهدى، وأعظم ما يبتليه به، ويقدِّره عليه: الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال.

وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم، وكتبه المنزّلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده، لا بيد العبد، وأنّ العبد هو الضالّ أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.

ثانيًا:

سبب الإشكال الحاصل هو عدم تحقيق العلاقة بين مراتب الهداية ، وما يهمنا هنا من مراتب الهداية مرتبتان وهما:

1-مرتبة الهدى ، بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده، وهذا خاص بالمكلفين.

2- الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق، ومشيئة الله لعبده الهداية، وخلقه دواعي الهدى، وإرادته، والقدرة عليه للعبد: وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل. 

والجواب عن الإشكال الذي لديك والذي عبرت عنه بسؤالك يكون بطريقين، الأول الإجمالي، والثاني التفصيلي.
 

أولا: الجواب الإجمالي:

 ذكره ابن القيم في "شفاء العليل" (1/267) وصاغ الإشكال في صورة أخرى فقال:

"فإن قيل: فكيف تقوم حجته عليهم، وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه؟

قيل: حُجَّته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الطريقَ المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانًا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرًا وباطنًا، ولم يحُل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم، بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله= فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحُل بينهم وبينه.

نعم، قطع عنهم توفيقه، ولم يُرِد من نفسِه إعانتهم، والإقبال بقلوبهم إليه.

فلم يحُل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه، فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي مُنِعوه، وحيل بينهم وبينه".

ثانيا: الجواب التفصيلي:

لتحقيق العلاقة بين هاتين المرتبتين ينبغي التقديم بأصلين عظيمين ينبغي استحضارهما عند النظر في هذا الباب، ويتبين من خلالهما أنه لا تعارض بين المرتبتين، وأن الأولى شرط للثانية.

الأصل الأول: ربط الله كل شيء في الوجود بأسباب لا يتحصل إلا بها، فجرت سنة الله تعالى الكونية على الترابط السببي بين أحداث الكون، ولا يُستثنى من هذه السنة شيء البتة؛ فكما أن أحداث الدنيا الطبيعية، خيرها وشرها، لا تحصل إلا بأسباب معلومة محدودة؛ فكذلك أحداث الآخرة خيرها وشرها لا تحصل إلا بأسباب معلومة محدودة.

ومع أن كل أحداث الدنيا مقدرة مكتوبة، فإن الله ربطها بأسبابها، وعلق حدوثها بتحقيق تلك الأسباب؛ فكذلك الشأن في أحداث الآخرة، فمع كونها مقدرة مكتوبة، فهي مربوطة بأسبابها.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَعَوَاقِبِهِمْ: فَإِنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ بِأَسْبَابِ تَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَيْءٌ إلَّا بِسَبَبِ، وَاَللَّهُ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ" انتهى، من "مجموع الفتاوى" (8/70).

وفي موضع آخر يقول:

"وَمِثَالُ ذَلِكَ:

مَنْ يَقُولُ: أَنَا لَا أَطَأُ امْرَأَةً، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى اللَّهُ لِي بِوَلَدِ فَهُوَ يُولَدُ؛ فَهَذَا جَاهِلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْوَلَدِ، قَضَى أَنَّ أَبَاهُ يَطَأُ امْرَأَةً فَتَحْبَلُ فَتَلِدُ، وَأَمَّا الْوَلَدُ بِلَا حَبَلٍ وَلَا وَطْءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْهُ وَلَمْ يَكْتُبْهُ!!

كَذَلِكَ الْجَنَّةُ؛ إنَّمَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا إيمَانٍ كَانَ ظَنُّهُ بَاطِلًا، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَهَا أَوْ لَا يَعْمَلَهَا؛ كَانَ كَافِرًا، وَاَللَّهُ قَدْ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ؛ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ النَّارَ" انتهى، من "مجموع الفتاوى" (8/ 266).

 الأصل الثاني: أعطى الله الإنسان الإرادة والاختيار، بحيث يستطيع بها الترجيح بين الخيارات المختلفة، والقدرة التي يستطيع بها التأثير في الأحداث، وتحقيق الخيار الذي تُرجِّحه إرادته، وتحقق حرية الإرادة والاختيار في الانسان في تحديد أفعاله: أمر فطري ضروري؛ فالعقلاء يفرقون بين الأفعال التي يفعلها المرء بإرادته واختياره، كالأكل والشرب؛ وبين ما يقع منه خارجا عن إرادته، كالسقوط والارتعاش من البرد والحمى.

والأفعال العبادية في الإسلام، لا تختلف في طبيعتها عن الأفعال العادية، لأن كلا منها فعل صادر من الإنسان، وعلى هذا الأساس جاءت النصوص الشرعية في الإسلام، فتعاملت مع أفعال الإنسان أنها صادرة باختياره: مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ فصلت/46.

ومن المتقرر في قواعد الشريعة أن الإنسان لا يحاسب إلا على أفعاله الواقعة باختياره وإرادته، وأما الأفعال التي وقعت منه من غير قصد، و قهره الناس عليها: فإنه لا يعاقب على تركها أو فعلها.

فإذا تقرر السابقان، قيل:

إن الله لم يترك الناس سدى من غير بيان ولا هدى؛ بل أبان لهم الحق، وأنار لهم الطريق، وأوضح لهم المحجة، فأرسل الرسل وأنزل الكتب، وأقام الأدلة ليرشد الناس إلى سبيل الهداية، ويميزها عن سبيل الغواية.

فالهداية الإلهية التي بمعنى البيان والدلالة والإرشاد ثابتة، وحاصلة لكل العالمين، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ الأنبياء/107، وقال تعالى: وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ الشورى/52، وقال تعالى: رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا النساء/165 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، بالغة الوضوح.

وكل من لم تبلغه الهداية العامة، ولم يصل إليه البيان الإلهي: فإنه لا يعذب على شيء لم يبلغه، ولم تقم عليه الحجة به. كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا الإسراء/15.

وهذه الهداية – وهي: هداية الإرسال، والبيان، والإرشاد، والتعليم - : لا تستلزم حصول التوفيق لكل من بلغته ، ولاهي "تكرهه" على اتباع الحق، رغما عنه ؛ وإن كانت شرطًا في اتباع الحق، ومكونا أساسيا - أو جزء سبب – له. لكن ذلك – مرة أخرى - : لا يستلزم حصول المشروط والمسبَّب، بل قد يتخلف عنه المقتضَى، المطلوبُ، المأمور به، المحبوب، وهو اتباع الحق و"تمام الاهتداء به"؛ إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع، كما سبق بيانه في الأصل الأول.

ولهذا قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فصلت/17، وقال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ التوبة/115، فهداهم هدى البيان والدلالة، فلم يهتدوا، فأضلهم؛ عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولًا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه. قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ الأنعام/110

وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة، فكفرها، فإنه يسلبُه إياها، بعد أن كانت نصيبه وحظه، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ الأنفال/53، وقال تعالى عن قوم فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا النمل/14، أي: جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها، وقال: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ آل عمران/86.

فالهداية الموجِبة للتوفيق وقبول الحق: لابد من توافر شروطها، وانتفاء موانعها؛ فقد أخبر الله سبحانه وتعالى بأن إضلاله لمن ضل وانحرف، إنما كان عقوبة له على أفعاله الصادرة منه باختياره وإرادته، كما قال تعالى: فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا النساء/155، وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ [الصف/5، وغيرها من الآيات في هذا المعنى.

وفي القرآن ما يبين أن الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الله سبحانه وتعالى من أول وهلة، من حينِ أمر الله العبد بالإيمان، أو بينه له؛ وإنما فعله بعد تحقق الدعوة منه سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد؛ ثم حصول الإعراض من المعرضين، والمبالغة في الكفر من الكافرين، جحدا، وعنادا؛ فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها، فلا تقبل الهدى بعد ذلك.

وخلاصة الأمر:

أن الله أرسل الرسل ليكون ذلك حجة على الناس، وبيان لسبيل الهداية أمامهم. واختيار الكافر لأفعاله ليس خارجا عن تلك الحقيقة؛ فهو يملك قدرة وإرادة، مثلما يملك غيرُه من المؤمنين القدرة والإرادة لإيمانهم، والله تعالى لم يفرق بين المؤمن والكافر في إعطاء كل منهما أدوات الفعل والاختيار؛ بل خلق الله الكافر كما خلق للمؤمن، على فطرة نقية "حنيفية"، سواء بسواء، وأعطى قدرة وإرادة يستطيع بها أن يؤثر في أفعاله، ويحدد تصرفاته، وأخفى علمه بالعواقب عن كل منهما، وأمر كلا منهما بالطاعة، ونهاه عن المعصية؛ وساوى بينهما في البيان والإرشاد، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ ولكن الكافر اختار – بإرادته التي يشعر بها في نفسه - الكفر بالله تعالى، والمؤمن اختار – بإرادته كذلك - بما يجده في نفسه من إرادة و قدرة الإيمان بالله.

 انظر جواب الأسئلة رقم: (198600)، (220690)، (13957).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب