الأربعاء 15 شوّال 1445 - 24 ابريل 2024
العربية

استفسار عن التحريف الذي لحق بالتوراة

305743

تاريخ النشر : 23-04-2019

المشاهدات : 12484

السؤال

وأنا أتابع مناقشة فى مقارنة الأديان طرح سؤال لم أفهم إجابته وهو: هل أتباع سيدنا موسى من حرفوا التوراة ؟ وبعد كم من المدة حرفت التوراة ؟ وهل كانت التوراة فى أوراق أم كانت نصوصا شفهية ؟ وهل بقيت من آثار التوراة الصحيحة شئ إلى يومنا هذا ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

قد أشارت نصوص الوحي إلى أن التوراة التي كانت عند موسى عليه السلام كانت مكتوبة.

قال الله تعالى: قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ   الأعراف /144 – 145.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، قيل: كانت الألواح من جوهر، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال من الحرام، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله تعالى فيها: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ).

وقيل: الألواح أعطيها موسى قبل التوراة، فالله أعلم " انتهى من"تفسير ابن كثير" (3 / 474).

ويدل على هذا أيضا حديث أَبَي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. ثَلاَثًا  رواه البخاري (6614) ، ومسلم (2652)، وفي رواية عنده  كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ  ورواه أبو داود (4701) ، وابن ماجه (80) وغيرهما بلفظ:

 وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ  .

ومما يدل على أن هذه الألواح هي التوراة ، من حيث المعنى: أن الله تعالى أخبر أنّه تعالى قد كتب له في الألواح وفصّل له كل شيء، وهذا يغني عن كتاب آخر، فتكون الألواح هي التوراة ذاتها.

ثانيا:

التغيير والتحريف الذي لحق بالتوراة ، بدأ في عهد مبكر، بعد وفاة موسى عليه السلام ، واستمر على مرّ القرون التالية ، وكان يحدث من جهتين:

الجهة الأولى:

يتفق أهل العلم والتاريخ أن بعد وفاة موسى عليه السلام ودخول بني إسرائيل إلى فلسطين، قد تناوب عليهم الأعداء، قتلا، وتخريبا لبيوتهم، وتحريقا لكتبهم، وهدما لمكان عبادتهم، حيث غزاهم ملك مصر، وبعد زمن غزاهم أهل الموصل، وبابل والروم وغيرهم، في مرات عدة، وكذا كان المرتدون من ملوك بني إسرائيل يعتدون على التوراة حرقا وإتلافا.

وقد بسط هذا كله ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه "الفصل" (1 / 287 - 299).

وقد تسبب هذا في انقطاع نقل التوراة بصورة سليمة، وتداول بنو إسرائيل على اعادة كتابتها بعد ما ضاعت منهم بسبب هذا الغزو والتدمير، وهذه الكتابة غير موثوق بدقتها، ولا بصحتها.

وأول تدوين يذكرونه للتوراة بعد هذه الوقائع، حدث بعد رجوع اليهود من السبي من بابل، ويقولون إنه أعاد تدوينها بعد ضياعها شخص يدعى "عزرا".

قال ابن حزم رحمه الله تعالى:

"... إلى أن أملاها عليهم من حفظه "عزرا" الوراق الهاروني، وهم مقرّون أنه وجدها عندهم، وفيها خلل كثير، فأصلحه، وهذا يكفي، وكان كتابة "عزرا" للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس، وكتبهم تدل على أن "عزرا" لم يكتبها لهم ولم يصلحها إلا بعد نحو أربعين عاما من رجوعهم إلى البيت بعد السبعين عاما التي كانوا فيها خالين، ولم يكن فيهم حينئذ نبي أصلا...

ومن ذلك الوقت انتشرت التوراة ونسخت، وظهرت ظهورا ضعيفا أيضا.

ولم تزل تتداولها الأيدي مع ذلك إلى أن جعل "أنطاكيوس" الملك الذي بنى "أنطاكية" وثنا للعبادة في بيت المقدس، وأخذ بني إسرائيل بعبادته...

ثم تولى أمرهم قوم من "بني هارون" بعد مئتين من السنين، وانقطعت القرابين فحينئذ انتشرت نسخ التوراة التي بأيديهم اليوم، وأحدث لهم أحبارهم صلوات لم تكن عندهم جعلوها بدلا من القرابين، وعملوا لهم دينا جديدا " انتهى من "الفصل" (1 / 298).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله، لم يقع فيها تبديل، ويقولون: أنه وقع التبديل في بعض ألفاظها...

قالوا: التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى عليهما السلام.

أما التوراة، فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا، وأجلى منه بنو إسرائيل، ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له "عزرا" وزعموا أنه نبي. ومن الناس من يقول :أنه لم يكن نبيا، وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة.

وقد قيل أنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب، وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها، ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها؛ كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة. " انتهى من"الجواب الصحيح" (2 / 395 - 396).

الجهة الثانية من التحريف:

هو تغيير في نصوص التوراة من طرف الأحبار المنتسبين لشريعة موسى عليه السلام ، فيكتبون من عند أنفسهم ما يشتهون وينسبونه إلى الله تعالى.

قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ   البقرة/79 .

عَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ... " رواه البخاري (7363).

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) الآية.

أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأحبار والرهبان استحفظوا كتاب الله؛ يعني استُودِعوه، وطُلب منهم حفظه، ولم يبين هنا: هل امتثلوا الأمر في ذلك، وحفظوه، أو لم يمتثلوا الأمر في ذلك، وضيعوه؟ ولكنه بيّن في مواضع أخر: أنهم لم يمتثلوا الأمر، ولم يحفظوا ما استحفظوه، بل حرفوه وبدلوه عمدا، كقوله: ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) الآية.

وقوله: ( وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ )، وقوله: ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا )، وقوله: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) الآية، وقوله جل وعلا: ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ) الآية، إلى غير ذلك من الآيات " انتهى من "أضواء البيان" (2 / 120).

ولمزيد الفائدة طالع كتاب "دراسات في اليهودية والمسيحية" للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي (ص 194 – 214).

ثالثا:

المقطوع به أن التوراة زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تحتوي على طائفة من النصوص الصحيحة، كما يدلّ على هذا جملة من آيات القرآن ونصوص من السنّة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" والصحيح أن هذه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب: فيها ما هو حكم الله، وإن كان قد بُدل وغُير بعض ألفاظهما، كقوله - تعالى -: ( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ).

إلى قوله: ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ )، فعلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس، وبعد مجيء بختنصر، وبعد مبعث المسيح، وبعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم: فيها حكم الله " انتهى من "الجواب الصحيح" (2 / 421 - 422).

وأما التوراة اليوم فلا يستبعد بقاء شيء من الحق فيها؛ لأنه لم يثبت ما يدل على أنهم قد حرفوا جميع ما فيها، لكن هذا الحق الذي يُعتقد أنه بقي فيها ، قد اختلط بما وقع فيها من التحريف ، والكذب ، والزيادة ، والنقصان ؛ فتعذر تمييز الحق الذي أنزله الله ، من الباطل الذي أدخلوه في كتبهم ؛ وهذا معنى النهي عن تصديق أهل الكتاب ، أو تكذيبهم ، بما يخبرون عن أخبارهم وكتبهم ، لئلا يصدق المسلم بكل ما يخبرون ، فيقبل الباطل الذي أدخلوه . أو يكذب بكل ما يخبرون ، فيرد الحق الذي بقي معهم ؛ وإنما يؤمن المسلم إيمانا إجماليا بما أنزل الله على رسله . وإنما يشهد بما يعلم، وهو أن هذه التوراة قد فقدت مصداقيتها بسبب ما لحقها من تحريف وتغيير مع مرور التاريخ، وأن القرآن يغني عمّا فيها، وهو المهيمن على ما بين يديه من الكتب .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وقوله تعالى:( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ).

يتناول خبر كل فاسق، وإن كان كافرا، لا يجوز تكذيبه إلا ببينة، كما لا يجوز تصديقه إلا ببينة.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرية، ويفسرونها بالعربية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وقولوا: ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ ‌وَإِلَٰهُنَا ‌وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ       

وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة، من إمساك الإنسان عما لا يعلم انتفاؤه وثبوته " انتهى من "الجواب الصحيح" (6 / 461 - 462).

وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (285261) .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب