الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024
العربية

حول قصة ليلى بنت العجماء والاستدلال بها على حكم الحلف بالطلاق

245947

تاريخ النشر : 20-12-2016

المشاهدات : 10241

السؤال


هل قصة ليلى بنت العجماء صحيحة ؟ وهل هناك أي دليل في الإسلام على الطلاق المعلق من القرآن والسنة ؟ أرجو أن تجيب عن كلا السؤالين ؛ لأن الإجابة ستكون بنعم أم لا فقط .

الجواب

الحمد لله.


أولا :
قصة ليلى بنت العجماء : صحيحة ؛ أخرجها البيهقي في "السنن الكبرى" (20044) عَنْ أَبِى رَافِعٍ : " أَنَّ لَيْلَى بِنْتَ الْعَجْمَاءِ مَوْلاَتَهُ قَالَتْ : هِىَ يَهُودِيَّةٌ ، وَهِىَ نَصْرَانِيَّةٌ ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْىٌ إِنْ لَمْ يُطَلِّقِ امْرَأَتَهُ ، إِنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، فَأَتَى زَيْنَبَ بنت أم سلمة فَانْطَلَقَتْ مَعَهُ فَقَالَتْ : هَا هُنَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ ! قَالَتْ : قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا قُلْتُ ، كُلُّ مَالٍ لِى هَدْىٌ ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِى مُحَرَّرٌ ، وَهِىَ يَهُودِيَّةٌ وَهِىَ نَصْرَانِيَّةٌ . قَالَتْ : خَلِّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ حَفْصَةَ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهَا كَمَا قَالَتْ زَيْنَبُ ، قَالَتْ : خَلِّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَجَاءَ مَعِى فَقَامَ بِالْبَابِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَتْ : بِأَبِى أَنْتَ وَأَبُوكَ قَالَ : أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ ؟! أَتَتْكِ زَيْنَبُ وَأَرْسَلَتْ إِلَيْكِ حَفْصَةُ قَالَتْ : قَدْ حَلَفْتُ بِكَذَا أَوْ كَذَا . قَالَ : كَفِّرِى عَنْ يَمِينِكِ ، وَخَلِّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ " .
ورواتها حفاظ أئمة كما جاء في أبحاث هيئة كبار العلماء على هذا الرابط:
https://goo.gl/wC26vF
وفي هذا الرابط المحال عليه تتبين طرق هذه القصة ومناقشة ما اعترض به على صحتها والرد عليه .
وقد صححها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره . قال رحمه الله :
" والحديث مشهور متواتر بين أهل العلم وهو على شرط الصحيحين قد رواه الأثرم والجوزجاني والبخاري في تاريخه وأبو ثور ومحمد بن نصر وابن المنذر وأبو بكر النيسابوري والدارقطني وابن عبد البر والبيهقي وابن حزم وغيرهم وذكره الفقهاء المشهورون من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حامد الإسفرائيني وأتباعه وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وأتباعه" .
انتهى من "العقود" (143) .

وقد قال ابن المنذر رحمه الله ، في الرواية الثانية عن ابن عمر وابن عباس ـ يأتي ذكرها في كلام شيخ الإسلام ـ :
"وقد روينا عن ابن عمر، وابن عباس أنهما قالا قولا يوافق هذا القول خلاف القول الأول، وليس بثابت ذلك عنهما " انتهى من"الأوسط" (12/131) .

وينظر للفائدة : "الاستذكار" لابن عبد البر (15/110) ، "المحلى" لابن حزم (8/8) .

ثانيا :
استدل بهذا الأثر من ذهب من العلماء إلى أن الرجل إذا حلف بالطلاق ، ولم يقصد بذلك وقوع الطلاق ، فحنث : فعليه كفارة يمين ، ولا يقع الطلاق .
قالوا : وهذا أولى من الحلف بالعتق ، لأن العتق محبوب لله تعالى مأمور به ، ومع ذلك لا يقع إذا استُعمل استعمال اليمين ، كما أفتى به ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم ، (زينب بنت أم سلمة ، وحفصة أم المؤمنين ، وعبد الله بن عمر) فعدم وقوع الطلاق أولى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَمِينًا تَقْتَضِي حَضًّا أَوْ مَنْعًا كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ أَوْ الْعِتْقُ يَلْزَمُهُ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا. أَوْ قَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ. وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا : أَنَّهُ إذَا حَنِثَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَالثَّانِي : لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ و، َلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَابْنِ حَزْمٍ. وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْعِتْقِ ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُمْ أَفْتَوْا مَنْ قَالَ لِفُلَانِ: إنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك فَمَالِي صَدَقَةٌ وَأَرِقَّائِي أَحْرَارٌ. فَقَالُوا: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَدَعْ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ: يَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ !
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِتْقِ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ. أَنَّهُ سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ إنْ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ. فَقَالَ: يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ" .
ثم ذكر أثر ليلى بنت العجماء ... ثم قال : "وَهَذَا الْأَثَرُ مَعْرُوفٌ؛ قَدْ رَوَاهُ حميد أَيْضًا وَغَيْرُهُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المزني. وَرَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ ، وَذَكَرُوا أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَفْتَوْهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ ، لَكِنْ سُلَيْمَانُ التيمي ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ حميد وَغَيْرُهُ.
وَعَارَضَ ذَلِكَ أَثَرٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الإمام أحمد عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ المروذي: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ [الإمام أحمد] : إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ: فيَعْتُق عَلَيْهِ إذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِمَا كَفَّارَةٌ.
قُلْت: فَإِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ يَحْنَثُ؟ قَالَ: يَعْتِقُ ، كَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا لِلْجَارِيَةِ : تَعْتِقُ .
ثُمَّ قَالَ: مَا سَمِعْنَاه إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ. وَقُلْت: فإيش إسْنَادُهُ؟
قَالَ: مَعْمَرٌ؛ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ: إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى: مَكِّيَّانِ...." .
وأجاب شيخ الإسلام عن هذه المعارضة بقوله :
"وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَقَدْ قَالَ أَحْمَد : مَا سَمِعْنَاهُ إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ.
وَعُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ: هُوَ يَمَانِيٌّ حِمْيَرِيٌّ ثِقَةٌ ، وَقَدْ رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه.
وَالْأَثَرُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ؛ [يعني أثر ليلى بنت العجماء] وَرِجَالُهُ وَرُوَاتُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا يَرْوُونَ؛ وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ تَمْوِيهٌ؛ وَلَمْ يُضْبَطْ لَنَا لَفْظُهُ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى تَضْعِيفِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَإِنْ صَحَّ كَانَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ عَنْ الصَّحَابَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ : فَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَابِتٌ بَيْنَ السَّلَفِ: كَعَطَاءِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا ".
انتهى باختصار ، من "مجموع الفتاوى" (33/187) وما بعدها .
ثالثا :
استدل من ذهب إلى عدم وقوع الطلاق المعلق ، إذا أخرجه صاحبه مخرج اليمين ، بوجوه من النظر ، ومقاصد الشرع ، وتصرفاته ، ومن ذلك :
1. ما تقرر في الشريعة المباركة أن الأعمال بالنيات والتصرفات بالمقاصد برهان ذلك ما أخرجه البخاري (5070) ، ومسلم (1907) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )؛ وهذا الذي علق الطلاق لم يكن قصده إيقاعه عند حصول المعلق عليه ، فكيف يؤاخذ بما لم يقصده؟
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : "واعلم أن تعليق الطلاق بالشروط ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون شرطاً محضاً فيقع به الطلاق بكل حال.
الثاني: أن يكون يميناً محضاً فلا يقع به الطلاق، وفيه كفارة يمين.
الثالث: أن يكون محتملاً الشرط المحض واليمين المحض، فهذا يرجع فيه إلى نية المعلق.
وهذا هو الصحيح في هذه المسألة ، وهو الذي تقتضيه الأدلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أما المذهب فإنهم يجعلون تعليق الطلاق بالشروط تعليقاً محضاً بدون تفصيل.
مثال التعليق المحض أن يقول: إذا غربت الشمس فأنت طالق، فإذا غربت طلقت؛ لأنه علقه على شرط محض.
ومثال اليمين المحض: أن يقول: إن كلمتُ زيداً فامرأتي طالق، وهو يقصد الامتناع من تكليم زيد، فهذا يمين محض؛ لأنه لا علاقة بين كلامه زيداً وتطليقه امرأته.
مثال ما كان محتملاً للأمرين: أن يقول لزوجته: إن خرجت من البيت فأنت طالق، فيحتمل أنه أراد الشرط ، بمعنى أن امرأته إذا خرجت طابت نفسه منها، ووقع عليها طلاقه ، وحينئذٍ يكون مريداً للطلاق ؛ فإذا خرجت من البيت طلقت ، فكأنه يقول: إذا خرجت من البيت أصبحت امرأة غير مرغوب فيك عندي ، فأنا أكرهك ، فحينئذٍ يقع الطلاق ؛ لأنه شرط محض.
الاحتمال الثاني: أن لا يكون قصده إيقاع الطلاق ، بل هو راغب في زوجته ولو خرجت ، ولا يريد طلاقها، لكنه أراد بهذا أن يمنعها من الخروج ، فعلقه على طلاقها تهديداً، فإذا خرجت في هذه الحال فإنها لا تطلق ؛ لأن هذا يراد به اليمين ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) .
وجعل الله ـ عزّ وجل ـ التحريم يميناً؛ لأن المحرِّم يريد المنع أو الامتناع من الشيء ، فدل هذا على أن ما قُصِد به الامتناع وإن لم يكن بصيغة القسم فإن حكمه حكم اليمين.
واعلم أنه لم يرد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ شيء في حكم الحلف بالطلاق؛ لأنه غير موجود في عصرهم، لكن ورد عنهم الحلف بالنذر، بأن يقول الإنسان: لله علي نذر أن لا ألبس هذا الثوب، أو يقول: إن لبست هذا الثوب فلله عليَّ نذر أن أصوم سنة، وهذا النذر عند الصحابة جعلوا حكمه حكم اليمين .
فإذا كانوا جعلوا النذر الذي يقصد به المنع حكمه حكم اليمين، مع أن الوفاء بالنذر واجب، فلأن يجعلوا الطلاق الذي هو مكروه حكمه حكم اليمين ـ إذا قصد به المنع ـ من باب أولى، وهذا قياس بعدم الفارق ، فهو من القياس الجلي؛ لأن القياس الجلي هو الذي نُصَّ على علته، أو ثبتت علته بإجماع أو قُطِعَ فيه بنفي الفارق" انتهى من "الشرح الممتع" (13/125-127) .

2. الطلاق المعلق لقصد الحث أو المنع يسمى يمينا في اللغة ، فوجب فيه عند الحنث ما يجب في اليمين . وفي ذلك يقول العلامة ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (33 / 221): " وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ ، لَا يَلْزَمُهُ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ ، فَالطَّلَاقُ الَّذِي لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ أَوْلَى أَنْ لَا يُلْزِمَ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ إذَا قَصَدَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُوبِ الشَّرْطِ ، كَقَوْلِهِ: إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِيَحُضَّ نَفْسَهُ أَوْ يَمْنَعَهَا، أَوْ يَحُضَّ غَيْرَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ: فَهَذَا مُخَالِفٌ ، كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ، وَمَالِي صَدَقَةٌ ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ وَصَوْمٌ: فَهَذَا حَالِفٌ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ) وَقَالَ تَعَالَى: ( ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ) ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وَهَذَا يَتَنَاوَلُ أَيْمَانَ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى؛ وَلَمْ يَخُصَّهُ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تُحَقِّقُ عُمُومَهُ" انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: (لَا طَلَاقَ إلَّا عَنْ وَطَرٍ ، وَلَا عِتْقَ إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ). وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ بِالطَّلَاقِ، وَلَا هُوَ مُتَقَرِّبٌ بِالْعِتْقِ؛ بَلْ هُوَ حَالِفٌ بِهِمَا .
وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ فِيهِ كَفَّارَةً. وَقِيلَ: لَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ.
وَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ: لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ التَّكْفِيرِ ضَعِيفًا أَيْضًا ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ طَاوُوسٍ وَغَيْرِهِ؛ وَهُوَ مُقْتَضَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَبِهِ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِينَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْلَى أَلَّا يَقَعَ مِنْ الْعِتْقِ ، فَإِذَا أَفْتَى الصَّحَابَةُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ ، فَالطَّلَاقُ أَوْلَى .
وَلَكِنَّ أَبَا ثَوْرٍ لَمْ يَبْلُغْهُ فِي الطَّلَاقِ شَيْءٌ ، فَقَالَ : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ أَيْضًا؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (33/197) .
وقال أيضا :
"عَلَى أَنِّي إلَى السَّاعَةِ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَلَامٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَدَثَ فِي زَمَانِهِمْ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَاخْتَلَفَ فِيهِ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. " فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ " أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوُقُوعُ. ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ شَيْئًا. قُلْت: أَكَانَ يَرَاهُ يَمِينًا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ طاوس عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ وَتَوَقَّفَ فِي كَوْنِهِ يَمِينًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَذْرِ مَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ. وَفِي كَوْنِ مِثْلِ هَذَا يَمِينًا خِلَافٌ مَشْهُورٌ...." .
ثم استدل للقول بأنه يمين فقال :
"وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأَثَرُ وَالِاعْتِبَارُ" .
ثم ذكر أدلة ذلك بنوع من الاستنباط في بحث طويل ، فانظره في "مجموع الفتاوى" (35/264- 305) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب