استدلال الفقهاء بالقياس وأقسامه

07-07-2023

السؤال 427069

كثيرا ما يستدل الفقهاء في إطلاق الأحكام الشرعية بأدلة تكون على ما هو كبيرة ليثبتوا حرمة ما هو أصغر، مثلا في قوله تعالى: ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)، الآية تدل على حرمة طاعة الوالدين في الكفر، ولكن الفقهاء يستدلون بها على حرمة الطاعة في ما هو عصيان لله تعالى، وكذلك في قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره)، الآية هنا تدل على حرمة الجلوس في مواطن الكفر، ولكن نجد أن الفقهاء يستدلون بهذا على حرمة مجالسة من يشرب الخمر، أو يعزف بالموسيقى في الأفراح، وغيره، أرجو جوابا شافيا كافيا.

الجواب

الحمد لله.

أولًا: يتم الاستدلال على الأحكام الشرعية باستعمال طرق لفهم أدلة الأحكام، وأدلة الأحكام الرئيسية هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

ثانيًا: من أنواع القياس، القياس القطعي وتعريفه أنه: ما لا يحتاج معه إلى التعرض للعلة الجامعة بل يكتفى فيه بنفي الفارق المؤثر في الحكم كإلغاء الفارق بين البول في الماء الراكد والبول في إناء وصبه فيه، وكقياس العمياء على العوراء في المنع من التضحية.

وهو أنواع منها:

1- ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق مع القطع بنفي الفارق كإلحاق مثقال الحب بمثقال الذرة في المؤاخذة، وإلحاق ضرب الوالدين بالتأفيف في التحريم، وإلحاق ما دون القنطار وفوق الدينار بهما في التأدية من بعض أهل الكتاب إذا ائتمن عليه في الأول والمطل من بعضهم في الثاني.

مثالُه: قولُه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا الإسراء/23 قيسَ على التَّأفُّفِ تحريمُ الضَّربِ والشَّتمِ، مِن باب أولى.

ومثله: قولُه صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ لا تجوزُ في الأضاحي: العوراءُ بيِّنٌ عورُها، والمريضةُ بيِّنٌ مرضُها، والعَرجاءُ بيِّنٌ ظَلَعُها، والكَسِيرُ التي لا تُنقي" أخرجه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب: ما يكره من الضحايا (2795).

 فالمنعُ من التَّضحيةِ بالعمياءِ، ومقطوعةِ الرِّجلين، مِن باب أولى.

2- ما كان المسكوت عنه مساويًا للمنطوق في الحكم مع القطع بنفي الفارق، كإلحاق إغراق مال اليتيم وإحراقه بأكله في التحريم.

فالتعبير الدقيق عن هذه الممارسة الاستدلالية التي يفعلها الفقهاء، هي أنها استدلال بمفهوم الموافقة.

ومفهوم الموافقة: هو ما وافق فيه المسكوتُ عنه المنطوقَ في الحكم، ويسمى بفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، وبالقياس الجلي، وبالتنبيه.

ينقسم مفهوم الموافقة إلى قسمين:

أ- مفهوم أولوي: وهو ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق؛ كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب لأنه أشد، وذلك في قوله تعالى: فلا تقل لهما أُفٍ الإسراء/23

ب- مفهوم مساوي: وهو ما كان المسكوت عنه مساويًا للمنطوق في الحكم؛ كدلالة تحريم أكل مال اليتيم على تحريم إحراقه، وذلك في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا النساء/10. فالأكل والإحراق متساويان؛ إذ الجميع إتلاف.

يقول العلامة ابن بدران الحنبلي: "فإنا فهمنا من آية: فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ الإسراء/ 23 أن المعنى المقتضي لهذا النهي هو تعظيم الوالدين؛ فلذلك فَهِمْنَا تحريمَ الضرب بطريق أولى، حتى لو لم نَفْهَمْ من ذلك تعظيمًا لما فَهِمْنَا تحريم الضرب أصلًا.

لكنه لما نَفَى التأفيف الأعم دلَّ على نَفْي الضرب الأخص بطريقة الأولى" انتهى، من "نزهة الخاطر العاطر" (2/200).

فالأمور التي ذكرتها في سؤالك تندرج تحت الاستدلال بمفهوم الموافقة، لكنها تتعلق بنوع ثالث وهو مفهوم الموافقة الأدنى؛ حيث يكون المذكور في الآية أعلى من المسكوت عنه، فالآية الأولى ذكرت مفارقة مجالس الكفار عند حديثهم في الكفر لكنها لم تتعرض لباقي المحرمات، فالاستدلال بالآية على المفارقة عند باقي المحرمات، هو استدلال بمفهوم الموافقة الأدنى، ومفهوم الموافقة الأدنى ليس حجة بالاتفاق.

لكن نفس هذه المسائل يوجد عليها أدلة أخرى؛ فلا يعني عدم الاتفاق على حجية هذا الدليل ، عدم وجود أدلة أخرى.

فمثلا مسألة منع طاعة الوالدين في المعصية، قد لا يصل الاستدلال عليها بقوله تعالى: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما الإسراء/23 لأنه حينها يكون استدلال بمفهوم الموافقة الأدنى، لكن نفس هذا الحكم الذي هو حرمة طاعة الوالدين في المعصية ثابت بأدلة أخرى أهمها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الطاعة في المعروف" أخرجه البخاري (7145)، وقوله عليه الصلاة والسلام (لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل) أخرجه أحمد (1095).

وعدم مجالسة شارب الخمر، قد دلت عليه أدلة أخرى، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر : فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر " .

رواه أحمد ( 126 ) ، وقد صححه العلامة الألباني في " إرواء الغليل " ( 7 / 6 ) .

هذا مع ما ورد من الأمر بتغيير المنكر، والإنكار على فاعله، وعدم مجالسته على ذلك.

وينظر جواب السؤال رقم: (20959)، ورقم: (12499).

والله أعلم.

أصول الفقه
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب