مدى صحة القول ؛ بأنّ تدخين السجائر لو كان حراما لأخبر بذلك الوحي

26-09-2017

السؤال 269603

في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله أطلعه على ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فهل المقصود أنه أطلعه على كل شي صغير ، أم الكبير المهم ، أم لا ، أم اطلعه بالمجمل ، أم أطلعه على الفتن فقط ؟ فبعضهم يقول : إن الدخان ليس بحرام ؛ ذلك أن الله أطلع نبينا على كل شي ، فلو كان حراما لأخبر عنه ، أو أشار إليه ، وإن تحريم الدخان لم يكن لو لم يسأل الناس عنه بحجة لا تسألوا عن أشياء إن تبدا لكم تسؤكم .

الجواب

الحمد لله.

أولا:

عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً، مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُه، فَأَعْرِفُه مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ ) رواه البخاري (6604) ومسلم (2891).

الظاهر من الحديث أنه أخبر بما هو كائن من الحوادث والفتن إلى قيام الساعة.

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:

" فعمومات هذه الأحاديث يراد بها الخصوص؛ إذ لا يمكن أن يحدث في يوم واحد، بل: ولا في أيام، ولا في أعوام بجميع ما يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا؛ وإنما مقصود هذه العمومات الإخبار عن رؤوس الفتن والمحن ورؤسائها، كما قال حذيفة بعد هذا حين قال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدّث مجلسا أنا فيه عن الفتن ... " انتهى، من "المفهم" (7 / 221).

إذًا ، فليس المقصود من هذا الحديث أن الله تعالى أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على كل شيء كائن إلى يوم القيامة ، ولا أنه حدثه في ذلك المقام بخبر كل كائن ، صغير أو كبير ، وحكم كل شيء ، رآه الناس ، أو سوف يحدث في المستقبل ، ولم يره الناس في زمانهم ؛ فهذا لا يقول به أحد من أهل العلم أصلا ، ولا يمكن أن يقوله .

ثانيا :

إذا لم يرد نص شرعي خاص يحرم شيئا ما ، فهل هذا يعني أنه حلال ؟

والجواب : لا ، لأن دلالة الشرع على الأحكام ليست بالنص الخاص فقط ، بل تكون بغير ذلك ، كالألفاظ العامة التي يدخل تحتها ما يستجد من المسائل ، أو بالقياس .. أو بغير ذلك .

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" ولكن مما ينبغي أن يعلم: أن ذكر الشيء بالتحريم والتحليل مما قد يخفى فهمه من نصوص الكتاب والسنة، فإن دلالة هذه النصوص قد تكون بطريق النص والتصريح، وقد تكون بطريق العموم والشمول، وقد تكون دلالته بطريق الفحوى والتنبيه، كما في قوله تعالى: ( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا )، فإن دخول ما هو أعظم من التأفيف من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى، ويسمى ذلك مفهوم الموافقة.

وقد تكون دلالته بطريق مفهوم المخالفة، كقوله: ( في الغنم السائمة الزكاة ) فإنه يدل بمفهومه على أنه لا زكاة في غير السائمة، وقد أخذ الأكثرون بذلك، واعتبروا بمفهوم المخالفة، وجعلوه حجة.

وقد تكون دلالته من باب القياس، فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجودا في غيره، فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد في ذلك المعنى عند جمهور العلماء، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزل الله، وأمر بالاعتبار به، فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل والتحريم.

فأما ما انتفى فيه ذلك كله، فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم على أنه معفو عنه " انتهى، من "جامع العلوم والحكم" (2 / 164 - 165).

وعلى هذا ؛ فالصواب أن يقال :

إذا لم يدل دليل شرعي على تحريم الدخان : فإنه يكون حلالا .

لكن الدخان قد دلت الأدلة الشرعية على تحريمه لما فيه من الضرر ، فقد ثبت ضرره على الأبدان بما لا يتنازع فيه اثنان .

ولما فيه من تضييع المال وإنفاقه في غير منفعة ، بل فيما فيه مضرة .

ولما فيه من خبث الطعم ، والرائحة .

فهو ، بما اجتمع فيه من ذلك كله : من جملة الخبائث التي حرمها الله تعالى .

وقد سبق بيان ذلك في عدة فتاوى ، فانظر الاسئلة رقم (9083) ، (127312) ، (10922) ، (118268) .

ثالثا :

سؤال المسلم لأهل العلم عن أحكام الأشياء -التي لم يأت فيها نص خاص من الوحي- هو من باب التفقه وطلب الهدى، ومعرفة حدود الله تعالى، وهو سؤال مأمور به ومحمود بالإجماع.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" فمن سأل مستفهما راغبا في العلم، ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال.

ومن سأل معنتا غير متفقه ولا متعلم، فهذا لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره " انتهى."التمهيد" (21 / 292).

وقال البغوي رحمه الله تعالى:

" المسألة وجهان: أحدهما: ما كان على وجه التبين والتعلم فيما يحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز مأمور به، قال الله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )، وقال الله تعالى: ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ) وقد سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسائل، فأنزل الله سبحانه وتعالى بيانها في كتابه ... " انتهى. "شرح السنة" (1 / 310).

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشكل عليهم من أمر دينهم .

كقوله تعالى:

( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) البقرة (219).

وكقوله تعالى:

( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) المائدة (4).

وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الكِلاَبِ؟ فَقَالَ: ( إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ المُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلاَبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُلْ ) رواه البخاري (5483) ومسلم (1929).

وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ البِتْعِ، وَهُوَ نَبِيذُ العَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ ) رواه البخاري (5586) ومسلم (2001).

والأحاديث في هذا كثيرة جدا .

وأما قوله تعالى :

( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) المائدة (101).

فليس المراد به النهي عن سؤال أهل العلم عمّا يستجد من الأشياء والنوازل، وإنما تنهى عن السؤال الذي لا فائدة منه، أو مايصدر من باب التنطع وليس من باب طلب الهدى، وغيرها من أنواع الأسئلة التي لا نفع فيها، وعلى هذا الوجه فسّرها أهل العلم.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى:

" ذُكِر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام، امتحانًا له أحيانًا، واستهزاءً أحيانًا ...

وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى. "تفسير الطبري" (9 / 13).

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:

" ثم قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا ( عَنْ أَشْيَاءَ ) مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها " انتهى. "تفسير ابن كثير" (3 / 203).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: ( كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟  فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّهَا ) رواه البخاري (4622).

والله أعلم.

الأشربة أصول الفقه
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب