ورد في السنة قراءة سورتي عم والمرسلات في ركعة واحدة ، فهل يقرأها كما وردت أو حسب ترتيب المصاحف الآن ؟

11-09-2017

السؤال 269390

النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة : النجم والرحمن في ركعة ، واقتربت والحاقة في ركعة ، والطور والذاريات في ركعة ، وإذا وقعت ونون في ركعة ، وسأل سائل والنازعات في ركعة ، وويل للمطففين وعبس في ركعة ، والمدثر والمزمل في ركعة ، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة ، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة ، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة . هل القراءة حسب هذا الترتيب مثل الطور والذاريات في ركعة، فالذاريات قبل الطور في ترتيب المصحف أم أقرأ الطور قبل الذاريات ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا :

الحديث المسئول عنه ، أخرجه أبو داود برقم (1396) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".

وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه النظائر ليس فيه مخالفة لترتيب المصحف ؛ إذ لم يكن ترتيب سور القرآن قد استقر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل كانت الآيات والسور لا تزال تنزل ، وإنما اجتهد الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاته في ترتيبه ، وتنوّع ترتيبهم للمصاحف .

فقد كان مصحف ابن مسعود رضي الله عنه مرتبا ترتيبا مغايرا لمصحف عثمان ، حيث كان موافقا لهذه النظائر التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال أبو داود عن هذا الحديث : (هذا تأليف ابن مسعود) ومعنى التأليف : هو الجمع والترتيب .

وقال في "المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود" (8/ 13( :

" )قوله هذا تأليف ابن مسعود) أي ما ذكر من ترتيب السور في كل ركعتين على هذه الهيئة : تأليف ابن مسعود ، وجمعه لها في صحيفته.

وأتى المصنف بهذا لدفع ما يتوهم من أن ترتيب السور في الحديث مخالف للترتيب المعروف.

قال الحافظ في الفتح : فيه دلالة على أن تأليف مصحف ابن مسعود غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ، ولم يكن على ترتيب النزول.

ويقال إن مصحف عليّ كان على ترتيب النزول ، أوله : اقرأ ، ثم المدثر ، ثم ن والقلم ، ثم المزمل ، ثم تبت ، ثم التكوير ، ثم سبح ، وهكذا إلى آخر المكي ، ثم المدني والله تعالى أعلم " انتهى .

وقد كان لعلي بن أبي طالب ترتيب آخر ، وكذلك أُبيّ بن كعب ، وغيرهما .

وأما مصحف عثمان الذي وافقه عليه جمهور الصحابة ، وانتشر في الأمصار : فقد قال جمع من أهل العلم إنه رُتّب موافقا للعرضة الأخيرة ، التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام في رمضان الأخير قبل وفاته صلى الله عليه وسلم .

قال ابن الملقن :

" قد اختلف في ترتيب سور القرآن، فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها، وقدم المكي على المدني، ومنهم من جعل في أول مصحفه الْحَمْدُ، ومنهم من جعل في أوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ , وهذا أول مصحف علي، وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ثم البقرة، ثم النساء على ترتيب مختلف رواه طلحة بن مصرف، عن يحيى بن وثاب، عن علقمة، عنه، ومصحف أُبي كان أوله الْحَمْدُ ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم المائدة ، كذلك ، على اختلاف شديد.

وأجاب القاضي أبو بكر ابن الطيب بأنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف : كان على وجه الاجتهاد من الصحابة .

وقد قال قوم من أهل العلم: إن تأليف السور على ما هو عليه في مصحفنا : كان على توقيف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم على ذلك وأمر به.

وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله : إنما كان قبل العرض الأخير، وأنه - عليه السلام - رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك" انتهى من "التوضيح" (24/43).

ومن أهل العلم من ضعّف استناد ترتيب مصحف عثمان إلى العرضة الأخيرة ، ونفى أن يكون هناك دليل يفيد القطع بالترتيب ، وهذا اختيار الحافظ ابن حجر رحمه الله ، واستدل له باجتهاد عثمان في جعله سورة "الأنفال" قبل "براءة" .

قال ابن حجر منتقدا القول بأن الترتيب توقيفي :

" فِيهِ نَظَرٌ ؛ بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يُعَارِضُهُ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ .

نَعَمْ ؛ تَرْتِيبُ بَعْضِ السُّوَرِ عَلَى بَعْضٍ ، أَوْ مُعْظَمِهَا : لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مِنَ اجْتِهَادِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ .

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن وَصَححهُ ابن حبّان وَالْحَاكِم من حَدِيث بن عَبَّاسٍ قَالَ : قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي ، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمئِينِ ؛ فَقَرَنْتُمْ بِينهمَا ، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّورَةُ ذَاتُ الْعَدَدِ ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ - يَعْنِي مِنْهَا - دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ ، فَيَقُولُ : ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ ، وَكَانَ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِهَا ، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا ، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا ا.ه

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ فِي كُلِّ سُورَةٍ كَانَ تَوْقِيفًا ، وَلَمَّا لَمْ يُفْصِحِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِ (بَرَاءَةٌ)، أَضَافَهَا عُثْمَانُ إِلَى الْأَنْفَالِ ، اجْتِهَادًا مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ" انتهى من "فتح الباري" (9/42).

وينظر : "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" للجديع (ص124).

وقد ذكر الشيخ مساعد الطيار ، حفظه الله : أن الخلاف في مسألة ترتيب السور في المصحف ، هل هو توقيفي ، أو اجتهادي : قوي جدا ، وبحث المسألة ، ورجح القول بأنه توقيفي .

ينظر : "المحرر في علوم القرآن" (197) وما بعدها .

ثانيا :

سواء قلنا : إن الترتيب العثماني استند إلى العرضة الأخيرة ، أو قلنا بنفي ذلك ، فإن السنة للمصلي أن يقرأ على حسب الترتيب العثماني ، وهو الترتيب الذي قد ثبت وشاع واستقرت عليه المصاحف في الأقطار الإسلامية ، بأمر من الخليفة الراشد عثمان بن عفان .

قال سليمان بن بلال: سمعت ربيعة (هو ربيعة الرّأي) يُسأل: لم قُدّمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكّة، وإنّما نزلتا بالمدينة؟ فقال: قدّمتا، وألّف القرآن على علم ممّن ألّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا ممّا يُنتهى إليه ، ولا يُسأل عنه " أخرجه عمر بن شبه في "تاريخ المدينة" (3/1016).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :

"يجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة؛ ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في كتابتها .

لكن لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان صار هذا مما سَنَّه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها" انتهى من "المستدرك على مجموع الفتاوى" (3/82) .

فإن أخل المصلي فقرأ منكِّسا ، كمن صلى مثلا بآل عمران ، ثم قرأ البقرة بعدها ، فلا شيء عليه ، وصلاته صحيحة لكن فعله خلاف الأولى  .

وقد سبق الكلام عن ذلك مفصلا في جواب السؤال (171060) ، فليراجع .

ومن أراد أن يطبق السنة ويأتي بالنظائر التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه يقرن بينهن دون مخالفة لترتيب مصحف عثمان ، فيقرأ بالذاريات ثم بالطور ، وكذلك يقدم سورة عبس على المطففين ، والمزمل على المدثر ... وهكذا .

وبهذا يحصّل المطلوب من الإتيان بالسنة في القرن بين النظائر من السور ، مع الالتزام بالترتيب العثماني .

جاء في "فتاوى ابن حجر الهيتمي" (1/140) .

"وسئل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا صُورَتُهُ: وَرَدَ قِرَاءَةُ النَّظَائِرِ فِي تَهَجُّدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ عِشْرُونَ سُورَةً عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ مُصْحَفِ الْإِمَامِ، فَهَلْ الْأَوْلَى لِمَنْ أَرَادَ قِرَاءَتَهَا فِي تَهَجُّدِهِ اتِّبَاعُ مَا وَرَدَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ التَّوَالِي عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ ؟

فأجاب بِقَوْلِهِ: "...لا يُنَافِيه قِرَاءَةُ السُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الطُّورُ وَالذَّارِيَاتُ مَثَلًا فِي رَكْعَةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِتَقْدِيمِ الذَّارِيَاتِ وَتَأْخِيرِهَا " انتهى باختصار .

وقال الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه "صفة الصلاة" (ص85) تعليقا على حديث ابن مسعود رضي الله عنه في جمعه صلى الله عليه وسلم بين النظائر قال : "إنه صلى الله عليه وسلم لم يراع في الجمع بين هذه النظائر ترتيب المصحف ، فدل على جواز ذلك ، ومثله ما سيأتي في القراءة في صلاة الليل [يعني : قراءته صلى الله عليه وسلم سورة البقرة ثم النساء ثم آل عمران] ، وإن كان الأفضل مراعاة الترتيب" انتهى .

والله أعلم .

القراءة في الصلاة
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب