التفاضل بين الأنبياء لا يخالف قوله تعالى : ( لا نُفَرِّق بَيْن أحدٍ من رُسُلِه )

15-06-2014

السؤال 217450


قال الله تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ، ونحن نقول عن نبينا صلى الله عليه وسلم : إنه أشرف الأنبياء والمرسلين ، مع أن الله تعالى يقول : ( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) ، فكيف نوفق بين ذلك ؟ ولماذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا ينبغي لعبد أن يقول إنه أفضل من يونس بن متى ، مع أنه ليس من أولي العزم من الرسل ؟

الجواب

الحمد لله.


أولا :
قال اللَّه تَعَالَى: ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ) الإسراء/ 55 . وقال تعالى أيضا : ( تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) البقرة/ 253 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" وَلَا خِلَافَ أَنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَنَّ أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ أَفْضَلُهُمْ ، وَهُمُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورُونَ نَصًّا في قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) الأحزاب/ 7
وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُهُمْ ، ثُمَّ بَعْدَهُ إِبْرَاهِيمُ ، ثُمَّ مُوسَى عَلَى الْمَشْهُورِ " انتهى، من " تفسير ابن كثير" (5/ 87-88) .
وانظر جواب السؤال رقم : (12096) ، (89814) .

ثانيا :
المقصود بقوله تعالى : ( لا نُفَرِّق بَيْن أحدٍ من رُسُلِه ) البقرة/285 . يعني نؤمن بهم جميعا ، لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، بل الجميع صادقون بارون راشدون .

وهذا لا ينافي تفاضل الأنبياء ، ولا يتعارض ما تقرر من أن بعضهم أفضل عند الله من بعض .
فالتفريق المنهي عنه بين رسل الله أن يقال : هذا رسول ، وهذا ليس برسول ، فهذا كفر ، لأن من كفر برسول فقد كفر بالله .
بخلاف من فاضل بين الأنبياء ، كما جاءت به نصوص الكتاب والسنة ، فهذا تصديق وإيمان .
انظر جواب السؤال رقم : (10669) ، ورقم : (83417) ، ورقم : (89814) .

ثالثا :
ما ورد من النهي عن تفضيل نبينا على موسى أو يونس بن متى صلى الله عليهم وسلم : محمول عند أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم قاله على سبيل الهضم والتواضع ، أو للنهي عن المفاضلة بين الأنبياء على وجه العصبية والحمية ، أو حذرا من تنقص أحد الأنبياء ، أو غير ذلك من الأسباب التي سنذكرها ، وليس هذا نهيا عن عموم التفضيل ؛ لأنه ثابت بنصوص الكتاب والسنة .
روى البخاري (3414) ، ومسلم (2373) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ ، أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ ، فَقَالَ : لاَ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى البَشَرِ ، فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَامَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ ، وَقَالَ : تَقُولُ : وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى البَشَرِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ؟ فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ : أَبَا القَاسِمِ ، إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا ، فَمَا بَالُ فُلاَنٍ لَطَمَ وَجْهِي ؟ فَقَال َ: لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ ؟ فَذَكَرَهُ ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِه ِ، ثُمَّ قَال َ: ( لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالعَرْشِ ، فَلاَ أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ ، أَمْ بُعِثَ قَبْلِي ، وَلاَ أَقُولُ : إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ) .
وروى البخاري (3395) ، ومسلم (2377) عن ابْن عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ) .
قال ابن كثير رحمه الله :
" فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ ( تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) . وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - فذكر الحديث المتقدم ، ثم قال - فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالتَّفْضِيلِ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا قَالَهُ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا ، عِنْدَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ .
الرَّابِعُ : لَا تُفَضِّلُوا بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ .
الْخَامِسُ : لَيْسَ مَقَامُ التَّفْضِيلِ إِلَيْكُمْ ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَعَلَيْكُمُ الِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ .
"تفسير ابن كثير" (1/ 670-671) .

وجاء في " الموسوعة الفقهية " (40/ 49) :
" مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمْ ، فَقِيل :
- هَذَا كَانَ قَبْل أَنْ تَنْزِل عَلَيْهِ آيَاتُ التَّفْضِيل ، وَقَبْل أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ . فَعَلَى هَذَا : التَّفْضِيل الآْنَ جَائِزٌ .
- وَقِيل : إِنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيل التَّوَاضُعِ .
- وَقِيل : إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى أَنْ يُذْكَرَ بَعْضُهُمْ بِمَا لاَ يَنْبَغِي ، وَيَقِل احْتِرَامُهُ عِنْدَ الْمُمَارَاةِ .
- وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ : إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ تَعْيِينِ الْمَفْضُول ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ فُضِّل مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ .
- وَقَال شَارِحُ الطَّحَاوِيَّةِ : الْمَنْهِيُّ عَنْهُ : التَّفْضِيل إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْفَخْرِ وَالْحَمِيَّةِ وَهَوَى النَّفْسِ ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الاِنْتِقَاصِ لِلْمَفْضُول .
- وَاخْتَارَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّفْضِيل إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لاَ تَفَاضُل فِيهَا ، وَالتَّفْضِيل فِي زِيَادَةِ الأْحْوَال وَالْخُصُوصِ وَالْكَرَامَاتِ وَالأْلْطَافِ " انتهى .
وقال القاري رحمه الله :
" قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ) أَيْ : لَا أَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ، وَلَا أُفَضِّلُ أَحَدًا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَة َ، فَإِنَّ شَأْنَهُمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ ، بَلْ نَقُولُ : كُلُّ مَنْ أُكْرِمَ بِالنُّبُوَّةِ ، فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبَهُمْ ، وَكَذَلِكَ مَنْ أُكْرِمَ بِالرِّسَالَةِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : ( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) وَإِنَّمَا خُصَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الرُّسُلِ لِمَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِ يُونُسَ ، وَتَوَلِّيهِ عَنْ قَوْمِهِ ، وَضَجْرَتِهِ عَنْ تَثَبُّطِهِمْ فِي الْإِجَابَةِ ، وَقِلَّةِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُمْ ، وَالِاحْتِفَالِ بِهِمْ حِينَ رَامُوا التَّنَصُّلَ ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ : ( وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ) وَقَالَ : ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) فَلَمْ يَأْمَنْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَامِرَ بَوَاطِنَ الضُّعَفَاءِ مِنْ أُمَّتِهِ ، مَا يَعُودُ إِلَى نَقِيصَةٍ فِي حَقِّهِ ، فَنَبَّأَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنَّهُ - مَعَ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ - كَسَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَهَذَا قَوْلٌ جَامِعٌ فِي بَيَانِ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ " انتهى من " مرقاة المفاتيح " (9/ 3645) .

رابعا :
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والآخرين ، وسيد ولد آدم أجمعين . روى مسلم (2278) عن أبي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ) .
وروى الترمذي (3615) وحسنه ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَلَا فَخْر َ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلَا فَخْرَ ) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
فقول القائل عنه صلى الله عليه وسلم : إنه سيد الأولين والآخرين ، وأشرف الأنبياء والمرسلين ، ونحو ذلك ، لا حرج فيه ، بل هو حقه الواجب ، واعتقاد ذلك ، والإقرار به فرض ثابت ، لكن بشرط ألا يقصد بذلك ، أو يؤدي إطلاقه إلى تنقص أحد من الأنبياء ؛ فإن أدى إلى ذلك ، وجب الإمساك عن ذلك القول ، في مثل هذا المقام .

وإنما المذموم : هو المبالغة في الإطراء ، حتى يرفعه فوق قدره ، أو يعطيه ما لم يجعل الله له ، أو الثناء على الفاضل لتنقص المفضول .

والله تعالى أعلم .

الإيمان بالرسل
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب