يقول لنا : لماذا لا تعبدون شكسبير لبراعته اللغوية ؟

24-09-2014

السؤال 215150


كنت أتحدث مع أحد الأشخاص حول الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم ، فذكر لي طرفاً من إرث الأديب الانجليزي المشهور شكسبير ، وكيف أنه كان معجزة في اللغة ، ثم قال : إن لغة القرآن لا تثبت صحته . بل وتجرأ فقال : لم لا تعبدون شكسبير إذاً ، إذا كان الأمر متعلقاً باللغة . فكيف ندحض زعمه ؟

الجواب

الحمد لله.

ندحض زعمه بحجة سهلة ميسورة لجميع المسلمين ، وظاهرة في القرآن الكريم ، ولكن عقل الإنسان الضعيف سِمَته السهو والغفلة والنسيان . وهذه الحجة أن نقول له : وهل تحدى شكسبير الأدباء السابقين واللاحقين أن يأتوا بمثل ما جاء به ، أو هل ادَّعى شكسبير النبوة حتى يؤمن به الناس ؟!

وإذا كان صاحبك يظن أن البلاغة والفصاحة تعني ( الإعجاز ) أو ( النبوة ) فهو واهم بهذا الظن ، حيث لم يلتفت إلى شرط ( التحدي )، مع ( السلامة من المعارض ) ، وهي قيود مهمة في الإيمان بالمعجزات .

أبهذا المنطق نتداول مفاهيم عظيمة ، ومباحث مصيرية ، كنبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

يقول ابن تيمية رحمه الله :

" والقرآن آيته باقية على طول الزمان ، من حين جاء به الرسول تُتْلى آيات التحدّي به . ويُتلى قوله : ( فَليَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ )، و( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ )، و ( بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ )، ويُتلى قوله : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً ).

فنفس إخبار الرسول بهذا في أول الأمر ، وقطعه بذلك ، مع علمه بكثرة الخلق ، دليلٌ على أنّه كان خارقاً ، يُعجِز الثقلين عن معارضته . وهذا لا يكون لغير الأنبياء .

ثمّ مع طول الزمان ، قد سمعه الموافق ، والمخالف ، والعرب ، والعجم . وليس في الأمم من أظهر كتاباً يقرأه الناس ، وقال إنّه مثله . وهذا يعرفه كلّ أحدٍ .

وما من كلام تكلم به الناس ، وإن كان في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنىً ، إلا وقد قال الناس نظيره ، وما يشبهه ويقاربه ؛ سواء كان شعراً ، أو خطابةً ، أو كلاماً في العلوم ، والحِكَمِ والاستدلال ، والوعظ ، والرسائل ، وغير ذلك . وما وجد من ذلك شيء ، إلاَّ ووجد ما يشبهه ويقاربه .

والقرآن ممّا يعلم الناس ؛ عربهم ، وعجمهم أنّه لم يُوجد له نظيرٌ ، مع حرص العرب ، وغير العرب على معارضته ؛ فلفظه آية ، ونظمه آية ، وإخباره بالغيوب آية ، وأمره ونهيه آية ، ووعده ووعيده آية ، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية . وإذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية ؛ كلّ ذلك لا يوجد له نظيرٌ في العالم .

وإذا قيل إنّ التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، لم يُوجد لها نظيرٌ أيضاً ، لم يضرّنا ذلك ؛ فإنّا قلنا : إنّ آيات الأنبياء لا تكون لغيرهم ، وإن كانت لجنس الأنبياء ؛ كالإخبار بغيب الله ؛ فهذه آية يشتركون فيها ، وكذلك إحياء الموتى ، قد كان آية لغير واحدٍ من الأنبياء غير المسيح ؛ كما كان ذلك لموسى وغيره " انتهى من " النبوات " (1/ 515).

والمعنى الذي نقصده هو أنه ليس كل بلاغة لغوية تعني النبوة أو الإلهية ، بل لا بد من شروط أخرى واضحة كل الوضوح ، وهي :

1. أن يدعي النبوة ذلك الفصيح البليغ .

2. أن يتحدى بفصاحته البشر تحديا صريحا فيعجزون عن معارضته .

3. أن تتوفر فيه شروط النبوة ومسالك التصديق بالرسالة ، التي سيأتي الحديث عنها .

هذا فضلا عن قول هذا المجادل : لم لا تعبدون شكسبير إذا كان الأمر متعلقا باللغة ؟!!

ومن أخبره أننا نعبد محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهل يستحق أحد من الخلق العبادة ؟؟!!

أليس شكسبير قد مات ، فكيف يموت الإله إذن !!

ألا يعلم هذا السائل أن المسلمين يعبدون الله عز وجل ، وإنما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء بوصفهم مرسلين من الله سبحانه لتبليغ الرسالة ، والتذكير بوجوب الإيمان ، وعبادة الله وحده ، واتباع الشرائع التي تحفظ على البلاد والعباد دينهم ودنياهم .

نظن أن هذه المعلومات هي قواعد الإسلام التي يحفظها صبيان المسلمين قبل كبارهم ، ولكنها تغيب عن بعض المشتغلين بالجدال ، والمنشغلين بالحديث في الشبهات ، المهم عنده أن يورد الشبهات ، كيف كانت ، وأنى كان مصدرها ، لغرض تكثير الشبهات فحسب ، دون احترام لعقول القراء أو السامعين .

ثم نزيد هنا أيضا تساؤلا مهما : من أخبر هذا المدعي أن دليل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم فحسب !!

بل أكثر الأنبياء أيدهم الله عز وجل بمعجزات وآيات شتى على صدق نبوتهم ، فمثلا موسى عليه السلام تنقلب له العصى حية تسعى ، وينفلق البحر له ، ويدخل يده في جيبه فتشفى مما بها ، فقال له الله عز وجل : ( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ . اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) القصص/31-32.

وعيسى عليه السلام تكلم في المهد صبيا ، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله ، ونزلت له مائدة من السماء على قومه .

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن الكريم ، وتحدى به العرب كلهم أن يأتوا بمثله ، وأخبر بمغيب الماضي والمستقبل رغم أميته وانعدام علماء الكتاب في بلده ، وعرف بكل قيم الخير والمعروف والإحسان في قومه ، وأسري به من مكة إلى المسجد الحرام في ليلة ، وانشق القمر آية لقومه ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وسبح الحصى في يده...في آيات وعلامات كثيرة جدا على صدق نبوته ودعوته ، وكل ذلك لا يتجاوز دلالته على أنه رسول من رب العالمين ، أما المرسِل فهو الخالق الرازق الذي يستحق العبادة دون ما سواه .

بل ليعلم هذا المجادل أن ( قرائن الأحوال ) ( وسنن الخلق ) من أعظم الدلائل على نبوات الأنبياء ، وليس فقط ( المعجزات الحسية ) التي يناقش ويجادل فيها .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" النبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها ، وهي أشرف العلوم ، وأشرف الأعمال ، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب ، ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب من وجوه كثيرة ، لا سيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا ، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون ، وما كانوا يدعون إليه ويأمرون به ، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض ، ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل ، ويفرقون به بين الرسل وغير الرسل .

فلو قدر أن رجلا جاء في زمان إمكان بعث الرسل ، وأمر بالشرك وعبادة الأوثان ، وإباحة الفواحش والظلم والكذب ، ولم يأمر بعبادة الله ، ولا بالإيمان باليوم الآخر ، هل كان مثل هذا يحتاج أن يطالب بمعجزة ، أو يشك في كذبه أنه نبي !

ولو قدر أنه أتى بما يظن أنه معجزة ، لعُلِم أنه من جنس المخاريق ، أو الفتن والمحنة ، ولهذا لما كان الدجال يدعي الإلهية ، لم يكن ما يأتي به دالّا على صدقه ، للعلم بأن دعواه ممتنعة في نفسها ، وأنه كذاب . " انتهى من " شرح العقيدة الأصفهانية " (140).

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت له جميع القرائن والدلائل من هذا النوع أيضا على صدق نبوته :

أولا : انتظمت له سنة الله تعالى في الانتصار للمرسلين ، وإظهار دعوة الحق التي يحملها ، كما كان الأمر لموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، حيث ملأ أتباعهم الدنيا ، وانتقم الله عز وجل من أعدائهم ، وأظهر كلمة الحق التي أرسلوا بها .

ثانيا : تحقق المسلك النوعي أيضا من الأدلة ، وهو مضمون الرسالة التي يحملها ، فرسالته عليه الصلاة والسلام من جنس رسائل السابقين ، فيها الأمر بالتوحيد ، والنهي عن الشرك ، والأمر بالقيم والفضائل ، والنهي عن الفواحش والرذائل .

ثالثا : تحقق المسلك الشخصي ، وهي الأخلاق التي يتحلى بها الأنبياء ، وصدقهم المطلق الذي يعرفه به قومهم ، ونحو ذلك من العلامات .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" المسلك الأول : النوعي ، هو ممّا استدل به النجاشي على نبوته ، فإنه لما استخبرهم عما يخبر به ، واستقرأهم القرآن فقرؤوه عليه قال : ( إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة )

وكذلك قبله ورقة بن نوفل ، لما أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رآه ، وكان ورقة قد تنصر ، وكان يكتب الإنجيل بالعبرانية ، قال : ( هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى )

المسلك الثاني : الشخصي : استدل به هرقل ملك الروم ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ، طلب هرقل من كان هنا من العرب ، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى غزة ، فطلبهم وسألهم عن أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه ، فصار يجدهم موافقين له في الإخبار ، فسألهم : هل كان في آبائه من ملك ؟ قالوا : لا . وهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قالوا : لا .

وسألهم أهو ذو نسب فيكم ؟ قالوا : نعم ، وسألهم : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقالوا : لا ما جربنا عليه كذبا . وسألهم : هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم ؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه ، وسألهم هل يزيدون أم ينقصون ؟ فذكروا أنهم يزيدون ، وسألهم هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ، فقالوا : لا . وسألهم : هل قاتلتموه ؟ قالوا : نعم . وسألهم عن الحرب بينهم وبينه ؟ فقالوا : يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى ، وسألهم هل يغدر ؟ فذكروا أنه لا يغدر . وسألهم بماذا يأمركم ؟ فقالوا : يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ، وينهانا عمّا كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة .

فهذه أكثر من عشر مسائل . ثم تبين لهم ما في هذه المسائل من الدلالة ، وأنه سألهم عن أسباب الكذب وعلاماته فرآها منتفية ، وسألهم عن علامات الصدق فوجدها ثابتة " انتهى من " شرح العقيدة الأصفهانية " (ص: 142).

فانظر كيف استدلت خديجة رضي الله عنها ، وورقة بن نوفل ، والنجاشي ، وهرقل ، على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال المسلكين : النوعي ، والشخصي .  من غير حاجة إلى معجزة حسية ، وقبل سماع القرآن وعرض التحدي .

ثم ليعلم هذا المجادل أن من غير الموضوعية ولا من الإنصاف اقتطاع الدليل المعين ، وحصر الدلالة فيه ، فـ " طرق العلم بالرسالة كثيرة جدا متنوعة ، ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم، علمنا علما يقينا أنهم كانوا صادقين ، على الحق ، من وجوه متعددة ". كما في " شرح الأصفهانية " (155) .

وينظر : جواب السؤال رقم : (183770) ، ورقم : (182059) .

فإذا ادعى أن مثل هذه الطرق متوفرة في مثاله الذي هو " شكسبير "، فهي مكابرة لا تستحق الحوار ولا المجادلة ، ولو توفرت فيه لرأيت له ملة قائمة اسمها " الديانة الشكسبيرية "، فإذا ادعى وجودها فأرح نفسك من طول عناء الحوار معه ، واحفظ عليك وقتك وعقلك ، فليس كل ما يقال في هذه الدنيا يستحق الوقوف عنده .

والله أعلم .

الإيمان بالكتب
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب