الحمد لله.
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رَجُلٍ أَوْقَفَ
وَقْفًا ، وَشَرَطَ فِي بَعْضِ شُرُوطِهِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ
وَيُسَبِّحُونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ .
فَهَلْ الْأَفْضَلُ السِّرُّ أَوْ الْجَهْرُ ؟
فأجاب : " الْحَمْدُ لِلَّهِ . بَلْ الْإِسْرَارُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ -
كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهَا -
أَفْضَلُ ؛ وَهُوَ الْأَفْضَلُ مُطْلَقًا ، إلَّا لِعَارِضٍ رَاجِحٍ ، وَهُوَ فِي
هَذَا الْوَقْتِ أَفْضَلُ خُصُوصًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : ( وَاذْكُرْ
رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ) وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الصَّحَابَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ قَالَ : ( أَيُّهَا
النَّاسُ ارْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا
غَائِبًا ، وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا ، إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ
أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ ) " انتهى من "الفتاوى الكبرى"
(4 /246)
ولعله لأجل ذلك أدب عمر رضي الله عنه أولئك القوم :
كَتَبَ عَامِلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَيْهِ ، أَنَّ هَاهُنَا قَوْمًا
يَجْتَمِعُونَ فَيَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلأََمِيرِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ
عُمَرُ : أَقْبِلْ وَأَقْبِلْ بِهِمْ مَعَك ، فَأَقْبَلَ ، وَقَالَ عُمَرُ
لِلْبَوَّابِ : أَعِدَّ لِي سَوْطًا ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى عُمَرَ أَقْبَلَ
عَلَى أَمِيرِهِمْ ضَرْبًا بِالسَّوْطِ ، فَقَالَ : يَا أمير المؤمنين ، إنَّا
لَسْنَا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْنِي أُولَئِكَ قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ قِبَلِ
الْمَشْرِقِ.
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (8/558) وابن وضاح في البدع والنهي عنها (11) .
قال علماء اللجنة الدائمة :
" الذكر الجماعي بدعة ؛ لأنه محدث ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( كل محدثة بدعة ،
وكل بدعة ضلالة ) والمشروع ذكر الله تعالى بدون صوت جماعي " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (24 /268)
ثالثا :
تزداد كراهة رفع الصوت بالذكر والدعاء ، والاجتماع عليه ، إذا كان فيه أذى لغيرهم
من المصلين أو الداعين والذاكرين .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : ( أَمَا إِنَّ
أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ ؛ فَلْيَعْلَمْ
أَحَدُكُمْ مَا يُنَاجِي رَبَّهُ ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ
بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ ) رواه أحمد (4909) وصححه الألباني .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" رفع الأصوات في المسجد على وجهين :
أحدهما : أن يكون بذكر الله وقراءة القرآن والمواعظ وتعلم العلم وتعليمه ، فما كان
من ذلك لحاجة عموم أهل المسجد إليه ، مثل الأذان والإقامة وقراءة الإمام في الصلوات
التي يجهر فيها بالقراءة ، فهذا كله حسن مأمور به .
وما لا حاجة إلى الجهر فيه ، فإن كان فيه أذى لغيره ممن يشتغل بالطاعات كمن يصلي
لنفسه ويجهر بقراءته ، حتى يغلط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي ، فإنه منهي عنه " انتهى
.
"فتح الباري" لابن رجب (3/ 282)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ليس لأحد أن يجهر بالقراءة بحيث يؤذي
غيره كالمصلين " انتهى .
"مجموع الفتاوى" (23/61)
وقال النووي رحمه الله :
" ونقل بن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب
رفع الصوت بالذكر والتكبير " انتهى "شرح صحيح مسلم" (5/84) .
رابعا :
أما ما رواه مسلم (2701) عن مُعَاوِيَة بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال : َإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ ؟ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ
وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا . قَالَ
آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ ؟ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا
ذَاكَ . قَالَ : ( أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ ،
وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ )
وما رواه أيضا (2699) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ
مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ
إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ
الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ )
فليس فيهما ما يدل على أن ذلك كان جماعة ، فضلا عن أن يكون بصوت مرتفع ، وإنما
يحتمل أنهم كانوا يقرؤون بالتناوب فيما بينهم ، أو يقرأ أحدهم والآخرون يستمعون ،
أو كانوا يجلسون يذكرون الله ، كل في نفسه ، قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَجْتَمِعُونَ أَحْيَانًا ،
يَأْمُرُونَ أَحَدَهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ . وَكَانَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ
وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (22 /521)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الصواب في هذا الموضوع أن الحديثين في الذين يتدارسون كتاب الله ويتلونه ، وكذلك
في القوم الذين يذكرون الله : أن هذا مطلق ، فيحمل على المقيد المتعارف في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولم يكن من المتعارف بينهم أنهم يذكرون الله
تعالى بلفظ جماعي ، أو يقرؤون القرآن بلفظ جماعي . وفي قوله : ( ويتدارسونه بينهم )
يدل على أن هذه المدارسة تكون بالتناوب : إما أن يقرأ واحد فإذا أتم قراءته قرأ
الثاني ما قرأ الأول وهكذا ، وإما أن يكون كل واحد منهم يقرأ جزءاً ثم يقرأ الآخر
مما وقف عليه الأول ، هذا هو ظاهر الحديث . وأما الحديث الآخر الذي فيه أنهم يذكرون
الله تعالى فإنا نقول : هذا مطلق ، فيحمل على ما كان متعارفاً عليه في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولم يكن متعارفاً بينهم أن يجتمعوا وأن يذكروا بذكر
واحد جماعة " انتهى .
"فتاوى نور على الدرب" - لابن عثيمين (19 /30)
والله أعلم .
راجع للفائدة إجابة السؤال رقم : (10491)